بقلم منير العـوادي،

تمثل الأحداث التي جدّت أخيرا بتونس لحظة ممتازة لاستجلاء كيفية تفاعـل مختلف النخب السياسية والفكرية مع الواقع، وتفحّص مختلف الاستراتيجيات التي حاولت أن ترسمها لتجسيم مشروعاتها وأهدافها، من أجل تحديد الإرادة الموجهة للقراءة والفعـل.

ولئن كانت هذه المساهمة لا تهتمّ إلاّ بالنخبة اليسارية، فإنّ مردّ ذلك هو الفشل الذريع والهزيمة المروّعة التي عـرفها المشروع اليساري وعـدم قدرته عـلى التوصّل إلى ما هو متوقّع منه، أي التحوّل إلى بديل باستطاعـته مقاومة نظام العـمالة والاستبداد، وإرساء نظام وطني ديمقراطي يستند إلى السيادة الشعـبية.

لقد بدأ الجميع يدرك أنّ واقع الحركة اليسارية اليوم هو واقع فاجع ومأساوي وبائس. فبعـد سنوات الكفاح البطولي والصمود في الستينات والسبعـينات، تحوّلت الساحة اليسارية بفعـل التهشيم والتهميش إلى فضاء للغـو، تتردد فيه “التحاليل” السطحية المبتذلة، وتسيطر عـليه الازدواجية بين ما يُقال عـلنا وما يقع البوح به سرا، وحيث يسعى كل “قائد” إلى تكريس “أناه” الصغـيرة، بكل ما تحمله من تعال وتخيلات وأوهام، معـتقدا أنّه عـنوان الحقيقة في مجالي النظرية والممارسة.

ولعـلّ من أهمّ العـبر والدروس التي يمكن استخلاصها، في علاقة بالانتفاضة الباسلة التي وقعـت أخيرا في تونس، استفحال بُعـد التيارات اليسارية عـن الواقع، إن لم نقل غـربتها عـنه، وعـدم قدرتها عـلى تحريك الشارع والفعـل فيه، مقارنة خاصة مع شباب الريف والجهات الداخلية، وامتداداتهم في المدن، وخاصة مدينة تونس.

هذا المعـطى وضع هذه النخبة أمام مأزق : إمّا الاعـتراف بمحدودية مساهمتها، وبالتالي الإقدام عـلى مراجعة الذات وتحديد العـوامل التي أدّت إلى شلّ فاعـلية مختلف المجموعات وإلى عـزلتها الواقعـية والفعـلية، وإمّا مواصلة نفس عـقلية الوصاية في التعامل مع الجماهير وقضاياها.

الطريق الأوّل صعـب ومرهق وباهظ التكاليف، وهو يقتضي العـمل في صمت ولمدّة طويلة، كما أنّه طريق غـير مأمون العـواقب. أمّا الطريق الثاني فسهل وميسور، وهو كفيل بأن يؤمّن لأصحابه الحضور تحت الأضواء البرّاقة، التي عادة ما تخفي خواء الفكر وفقر التحليل.

ولكن ما لا يدركه أصحاب التصوّر الثاني هو أنّ طريق التفاؤل المفرط ــ عـلى افتراض حسن النية ــ لن يؤدّي في النهاية إلا إلى الانتكاسة ومزيد الإحباط واليأس.

كيف تصرفت هذه النخبة؟

عـندما ندقق النظر في آليات التفكير والممارسة لدى المجموعات اليسارية، وعلاقتها بما استجدّ أخيرا، نرى أنّها مرت بمرحلتين اثنتين:

أولا : منذ أن انطلقت الأحداث في 17 ديسمبر 2010، وجدت هذه المجموعات نفسها في حالة ذهول وبهتة حول ما يدور حولها.

حاولت في البداية ” الالتحام” بالجماهير سواء مباشرة أو من خلال الهياكل النقابية القاعـدية. وكان كلّ عـمل تنجزه هذه الهياكل يقترن بلزوم التقيّد بإطار محدد سلفا، من أهمّ نقاطه: “قطع الطريق عـلى المزايدة”، وعـدم إحراج بيروقراطية الاتحاد.

ثانيا: منذ 14 جانفي وبعـد السقوط المدوّي للرئيس السابق، حاولت المجموعات اليسارية استباق الأحداث، فسارعـت إلى تنصيب نفسها وصيا عـلى الجماهير، بالرغـم من أنّها لا تملك في الحقيقة شيئا كبيرا يمكن أن تعـطيه.

اعـتمدت في سبيل تحقيق هذا الهدف عـلى خطاب عاطفي يستثير الانفعالات الجيّاشة، من خلال إعلاء سقف المطالب، وطلب تحقيقها الآن وهنا، باعـتبار أنّ ما حصل هو “ثورة شعـبية”.

فما الذي حدث بالضبط؟

انطلقت الشرارة الأولى للأحداث من واقعة محددة : شاب متعـلم، ينتمي إلى منطقة تعاني من الفوارق الجهوية المقيتة، وما ترتب عـنها من بؤس وحرمان، يُقدم في لحظة يأس وغـضب عـلى إحراق نفسه، ليس نتيجة الفقر والجوع فقط، بل خاصة نتيجة الظلم والإهانة والجبروت.

هذه الواقعة تحوّلت إلى “حدث”، رجّ الأرض رجّا، تداعى له الشباب والجماهير التي اكتوت طويلا بنيران الواقع المرير. لذلك انفجر بركان الغـضب سريعا، فشمل البوادي والأرياف والقرى المجاورة: من سيدي بوزيد، إلى الرقاب، إلى منزل بوزيان، إلى القصرين، إلى تالة. ثم عـمّ بعـد ذلك بشكل متفاوت بقية المناطق، وخاصة الأحياء الشعـبية عـلى تخوم تونس العاصمة.

كان العـنوان الأكثر جلاء للاحتجاجات هو الرفض، رفض الطغـيان ورمزه الأول، ورفض النظام وأزلامه.

ومنذ الفرار الجبان والذليل للرئيس السابق وأفراد عائلته، توقّفت جذوة الانتفاضة وخفّ بريقها، ولم تستمر إلاّ في شكل بعـض المظاهرات أو الاعـتصامات هنا أو هناك.

لم تكن مقتضيات الانتفاضة ومعـطياتها ( خاصة فجئيتها وسرعة إيقاعها) تسمح بتوليد قيادة أركان حقيقية أو تصورات برنامجية أو أدوات نضال ( أحزاب ــ جبهات…)، لذلك لم يقع رصد الدور الخطير الذي كانت تؤديه في الخفاء بعـض الدوائر الأجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا)، وكذلك الدوائر المحلية (المؤسسة العـسكرية خاصة)، لإيقاف هذه الانتفاضة عـند حدود معـينة، و”إعادة الأمور إلى نصابها”، بعـد ترميم الصورة والمشهد.

من هنا نرى أنّ الانتفاضة، شأنها شأن الثورة، كيفية من كيفيات “التمرّد”. ولكن لكلّ منهما أوضاعه الخاصة وآثاره الواقعـية. لذلك يجب الوعي بما يميّز بينهما، باعـتبار أنّ هذا الوعي هو الشرط الضروري لضبط الممكنات التي يجب بلورتها في هذا الظرف بالذات.

فما هي الفروق الأساسية بين الانتفاضة والثورة ؟

أولا: الانتفاضة هي ردّ فعـل تلقائي وعـفوي، يمكن أن ينطلق في كلّ لحظة، دون تخطيط أو برنامج، لذلك لا يفرز بالضرورة قيادة له، ولا يرمي إلى نتائج محددة.

أمّا الثورة، فهي فعـل واعي ومنظم، يخضع لخطة دقيقة. إنّها مخاض سياسي وعـسكري، يهدم القديم ويبني عـلى أنقاضه الجديد. فهي إذن تحوّل نوعي ناتج عـن عـملية نمو تدريجي وتصاعـدي.

ثانيا: الانتفاضة تحمل في طيّاتها احتمالين، إذ يمكن إجهاضها عـن طريق التصفية أو التدجين، كما يمكن أن تتوفر لها السبل لتحقيق نجاح نسبي ومحدود، عكس الثورة التي لا تكون ــ عـلى الأقل في بدايتها ــ إلا ظافرة ومنتصرة.

الثورة تملك لكلّ شروط التحقق: حزب ثوري جماهيري ــ جبهة متراصة ومتحدة تضمّ كل الطبقات المضطهدة ــ جيش شعـبي. وهي تُتوّج بالضرورة بتحطيم النظام السياسي والاقتصادي السائد والإجهاز عـليه، وصولا إلى امتلاك الشعـب لحقّ تقرير مصيره.

الثورة لا تزيل فقط رموز الطغـيان، بل هي تزيل أسباب الطغـيان، وتحدد قبل ذلك الأسلوب الذي يمكّن من إزالة نظام الطغـيان واقتلاع أسسه.

إنّ إصرار البعـض عـلى إضفاء صفة “الثورة” عـلى ما حدث، دون تحليل أو برهنة، يعـبّر في أفضل الأحوال عـن شدّة ضغـط الهواجس والحسابات السياسة الآنية، وخاصة الرغـبة في إثبات الذات تفاديا للانقراض.

فلقد كانت هذه القوى اليسارية تعـيش في واقع من التآكل والتراجع وبداية الاندثار. فجأة “اكتشفت” أنّ الحدث يُمكن أن يقذف بها إلى الواجهة.

في هذا الإطار جاء ميلاد، التي أعـلن عـن تأسيسها في 20 جانفي 2011. وقد أثار الإعـلان عـن الجبهة الكثير من الالتباس والضبابية والغـموض، بالنظر خاصة إلى هزال مكوناتها، وكيفية انتقالها من التنافي والتجافي إلى الوحدة والعـمل المشترك، وكذلك حول مضمون برنامجها.

إذ تتشكل هذه الجبهة من مجموعات مختلفة، أو بالأحرى من نواتات صغـيرة، لا تملك المقوّمات الأساسية للحزب السياسي، الذي يملك عادة قيادات ذات كفاءات عالية، وقواعـد جماهيرية قوية.

من خلال تخصيص هذا الرأي، نرى أنّ المجموعات المكوّنة للجبهة تعـيش أوضاعا متفاوتة من الإرباك والارتباك.

فـ”حزب العـمال الشيوعي التونسي” PCOT))، هو استنساخ لتجربة PCOF))، دون تأصيل نظري أو سياسي خاص. وقد سار هذا الحزب في ركاب سلطة بن عـلي بعـد انقلاب 7 نوفمبر 1987، حيث أصدر جريدة قانونية “البديل”. كما تمّ توظيفه بشكل فج في الصراع ضدّ التيار الأصولي (قضية الكاسات). وقد عـرف هذا الحزب ضعـفا شديدا بعـد انسحاب مجموعة محمد الكيلاني في أواخر سنة 1993. وقد أعاد الحزب النظر في مواقفه السابقة وأبرم تحالفا مع التيار الأصولي في إطار “هـيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات”.

أماّ “حزب العـمل الوطني الديمقراطي”، فهو امتداد لمجموعة نقابية صغـيرة، معـروفة بتبعـيتها وذيليتها للبيروقراطية النقابية المسيطرة حاليا عـلى الاتحاد العام التونسي للشغـل. وقد كاد ينحصر جهد هذا الحزب في العـشرية الماضية، في الحقل النقابي، عـلى محاولة إيصال أحد العـناصر المقربة جدّا من قيادته إلى عـضوية المكتب التنفيذي للإتحاد، بما جعـله يعـيش تمزقا وتصدّعا في صفوفه.

وبالنسبة لـ”حركة الوطنيين الديمقراطيين”، فهي جناح أو جزء مما يُعـرف في الساحة السياسية بـ”الوطج”. وتعـيش هذه المجموعة الهلامية مأزقا حادا، نتيجة تصرّف أحد عـناصرها بمنطق “العـرّيف”، عـلى وزن “الفهّيم”، وهو ما جعـل عـناصر انتمت سابقا إلى هذه المجموعة ترفض الانضواء في صفوفها. وإضافة إلى التسلط، تعاني هذه المجموعة من تكلس فكري وسياسي فاضح.

وفي ما يخصّ “الوطنيون الديمقراطيون” (الوطد)، فيتعـلق الأمر بمجموعة نقابوية، شهدت ما يشبه التبخّر في أعـقاب فشلها في المؤتمر القطاعي للتعـليم الثانوي في أواخر مارس 2005. ومن المفارقات اللافتة للنظر أنّ النقاوة والطهرية التي تتظاهر بها هذه المجموعة، ترافقت مع تورّط بعـض عـناصرها النّافذة في ملف عـقاري ومالي أو بالأحرى في صفقة مشبوهة مع الحزب الحاكم وأجهزته الإدارية، يعـود تاريخها إلى جويلية سنة 1997، وهو ما يضع هذه المجموعة مدار احتراز واتهام.

وبالإضافة إلى هؤلاء، توجد مجموعة أخرى هي “رابطة اليسار العـمالي”، وهي مجموعة تروتسكية ــ ليبرالية، ذات نبرة احتجاجية عالية، ولكنها ضعـيفة جدا من حيث الانتشار.

وهناك أخيرا “اليساريون المستقلون”، وهم انشقاق عـن مجموعة، منشقة بدورها عـن “حزب العـمال”.

كما يكشف البيان الأوّل الذي أصدرته الجبهة عـن إجراء عـملية توحيد سريعة ومتسرعة بين مجموعات اتسمت العلاقة بينها في الماضي القريب بالصراع والاتهامات المتبادلة والاحتقان الشديد.

فكيف توصلت بهذه السرعة الغـريبة إلى الاتفاق؟

إنّ إغـفال الفروق والاختلافات والإعلان عـلى عجل عـن “وحدة”، وهو في الحقيقة وحدة وهمية، لا يمكن أن تفهم إلا عـلى أساس تأويل نفعي ــ مصلحي للواقع، ومحاولة بائسة لركوب نضالات الشعـب، ذلك أنّ الوحدة مهما كانت ضرورتها لا يمكن أن تكون حقيقية وصادقة إلاّ متى كانت تتويجا لصيرورة سجال ونقاش بين مقاربات متباينة وأطراف مختلفة.

إنّ غـياب الصراع الفكري والسياسي، كتمهيد لبناء الجبهة، يجعـل” الوحدة” بين مكوّناتها ملغـومة وهشة وقابلة للانفجار في كل لحظة.

من الوصاية إلى التنصيب

لم تستطع جبهة 14 جانفي مواجهة امتحان الواقع، بالنظر خاصة إلى ضعـف مكوناتها. لذلك تدحرجت شيئا فشيئا، بفعـل ضغـط الأحداث، إلى تغـيير وجهتها وقبول الالتقاء مع أعـداء الأمس القريب، بل والرضوخ إليهم.

فلئن لم يتضمن بيان 14 جانفي أيّة إشارة إلى المهام العـملية أو الآليات الكفيلة بتحقيق الأهداف المعـلنة، فإنّ المجموعات المكوّنة للجبهة “تفطنت” إلى هذه الضرورة لاحقا. إذ دعـت يوم الأربعاء 26 جانفي 2011 إلى تشكيل” المؤتمر الوطني لحماية الثورة”، وهو يضمّ في صفوفه كل القوى السياسية والمدنية، “التي تتبنّى مطالب الشعـب وتناضل من أجل تحقيقها”.

هذه المبادرة وقع تعـديلها وتجسيمها يوم الجمعة 11 فيفري 2011، من خلال إصدار بلاغ إعلامي، ممضى من قبل 28 طرف يمثلون مجموعة من “الهيئات والأحزاب والجمعـيات والمنظمات”. وقد اتفقت الأطراف المشاركة عـلى الدعـوة إلى إنشاء “المجلس الوطني لحماية الثورة”.

ويتضمّن هذا الإتفاق جملة من النقاط بالغة الخطورة، والتي تفرض الاحتراس واليقظة، انطلاقا من دواعي سياسية وأخلاقية، لا يمكن الاستهانة بها، مهما كان ضيق الحال، ومهما كانت الملابسات، ويتعـلق الأمر هنا بمسألتين:

أولا: أنّ هذا التجمع يضمّ العـديد من القوى والفعاليات المعادية: البيروقراطية النقابية ــ حركة النهضة (الإخوان المسلمين)…

فهل يتعـلق الأمر بتدبيج بيانات كيفما اتفق أم أنّ المسألة خضعـت للبحث والنظر؟ أو بصورة أوضح : هل يمكن أن تحمي الثورة قوى غـير ثورية؟

ثانيا: يدعـو البلاغ إلى تكوين “برلمان منصب” أو “سلطة موازية”، ممثلة من قوى سياسية، لها حق القرار والتشريع والمراقبة، خلال “الفترة الانتقالية”. ويتمّ المصادقة عـلى هذه الهيئة بمقتضى “مرسوم يصدره الرئيس المؤقت”.

إنّ كل هذا المشروع يقوم عـلى التكاذب المشترك وعـلى الخداع والغـش بين القوى التي أبرمت هذا البيان. كما أنّ طلب إصدار مرسوم للموافقة عـلى هذا المجلس يتعارض مع الموقف من “الحكومة المنصبة”، إذ كيف نقبل برئيس منصب ولا نقبل بحكومة منصبة؟

ولأنّ الجبهة، أو غـيرها من القوى الممضية عـلى البلاغ، لا تملك القدرة عـلى تجسيد مطلبها، فإنّها رأت أنّه من الضروري الاستناد إلى البيروقراطية النقابية حتى تسعـفها بإمكانية الضغـط، لذلك فوّضت لها عـملية التفاوض مع “الرئيس المؤقت”. كما أنّ البيروقراطية وجدت ضالتها في اعـتماد هذه القوى عـليها، وفي تبنّي كل مشروع مهما كان، لربح الوقت وتجنب كل محاسبة عـلى الخدمات الجليلة التي قدمتها لنظام بن عـلي ولممارستها الاستبداد والفساد داخل المنظمة النقابية. من هنا نفهم “التجميد” الذي آلت إليه مبادرة” اللقاء النقابي الديمقراطي”.

محاولة للتفسير

إنّ ما أصاب اليسار اليوم من وهن وتذرُر وعجز، يدفع ضرورة إلى وضع تجربة هذا اليسار عـلى محك النقد والمراجعة، وخاصة في مجالين : في مجال الرؤية والفكر وفي مجال العلاقة بالطبقات الشعـبية.

إذ تنطلق هذه المجموعات اليسارية من تصوّر يقرّ أولوية القضية السياسية وأولوية الفعـل السياسي. إذ هي ترى أنّ الوصول إلى السلطة، عـبر العـمل السياسي المباشر، يمكن أن يحقق كلّ المطالب: الحرية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والتطور الفكري..

الفرضية الضمنية لهذا النوع من التفكير هي التالية: التغـيير يبدأ من فوق، أي من السلطة، ثم يقع تعـميمه عـلى كافة نواحي الحياة.

هذا الخطاب، رغـم “جذريته”، في مستوى الظاهر فقط، هو خطاب يتماهى مع ما يسعى الفكر التقليدي السائد إلى إشاعـته وترسيخه، وخاصة تغـليب المصلحة الآنية المباشرة عـلى كل ما هو نظري ومعـرفي، وكذلك الانطلاق من الوحدة والاتفاق ونبذ التعـدد والاختلاف.

أماّ في مستوى العلاقة مع الطبقات الشعـبية، فإنّ ما يلاحظ هو عـزلة المجموعات اليسارية وعـدم قدرتها عـلى التوجه إلى الطبقات المضطهدة.

ولعـلّ أهمّ الأدلة عـلى ذلك أنّ الجماهير الفقيرة والمفقرة التي خرجت لمقاومة نظام الاستبداد والفساد في الفترة ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 رفضت الانضواء تحت راية أيّ تيار سياسي مهما كان (يساريا أو قوميا أو إسلاميا)، بل إنّ هذه المجموعات كلها لم تقدم شهيدا واحدا من قوافل شهداء الشعـب. فكيف يجرؤ البعـض عـلى تنصيب نفسه قيادة لشعـب لم يقدم من أجله التضحيات الضرورية؟

إنّ الجماهير المسحوقة التي قارعـت أعـتى الديكتاتوريات قادرة عـلى التصدي للمجموعات التي انغـمست في اللوصوصية بشكل ضمني أو صريح.