المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

بقلم د. خليل العميري

استوقفني مشهد متكرر أثناء متابعتي للأحداث السياسية المتتالية في الأسابيع الأخيرة في تونس الا وهو مشهد السياسي وهو يلقي باللوم على أطراف متعددة مكشوفة الهوية كانت أو مجهولة كي يتجنب الإقرار بالأخطاء في أحداث طرأت أثناء ممارسته لمهامه أو يتهرب من تحمل مسؤولية سياسات أو قرارات هي من بنات أفكاره. وهذا تصرف حسب رأيي لا يتماشى مع الممارسة الديمقراطية الحقيقية إذ لا يمكن تطوير المنظومة الإدارية والسياسية دون تكريس ثقافة المسؤولية والمحاسبة والمساءلة واحترام تقاليد التقييم الموضوعي والشفاف، وهذا التصرف هو حسب رأيي وليد تراكمات لعقود متتالية من الحكم الإستبدادي المنغلق على نفسه والرافض لأي محاسبة جدية والذي أولد نخبة سياسية لا تكترث بالمواطن و تعتبره لا يرتقي إلى مستوى مساءلتها عن سياساتها أو تقييم مردودية ونتائج خياراتها. فحتى دائرة المحاسبات وقع تهميشها في عهد الرئيس المخلوع كما وقع الضغط على سلك القضاء بهدف المس من استقلاليته بحيث لم يعد المسؤول مطالبا بالرد عن اية إستفسارات إلا بطبيعة الحال ما يصدر عن القائد الفذ في أعلى الهرم أو بعض أقربائه.

وفي المقابل تقوم الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة مثلا وبعد أي أزمة كبرى تكشف النقاب عن وجود خلل في أليات المنظومة المالية أو الأمنية أو الإدارية في الدولة بفتح تحقيق لتشخيص مواطن الخلل في القوانين و نقاط الضعف في الهياكل المعنية ويتم عادة إثر ذلك سن التشريعات اللازمة لتفادي تكرار الأزمة. وأغلب هذه التحقيقات تشرف عليها لجان من أعضاء الكونغرس تساندها جيوش من الأخصائيين، وعادة ما يتم التحقيق المتمثل في استنطاق مطول لكل المسؤولين المعنيين بصفة شفافة و يبث مباشرة على الهواء للمساهمة في إعلام الرأي العام وتنمية روح المسؤولية عند الناشئة وكذلك لتثقيف مختلف شرائح المجتمع بدور هياكل الدولة ومؤسساتها وطرق إصلاحها.

ومن المفيد ونحن نؤسس لدولة القانون أن نسرد بعض الامثلة لثقافة اللامسؤولية التي كرستها فترة حكم الرئيس السابق خصوصا والمتجلية بشكل مدهش في مواقف بعض المسؤولين إبان فترة ما بعد الثورة.

الغنوشي يستقيل ويلتحق بمعتصمي القصبة: صرح السيد محمد الغنوشي مباشرة إثر الندوة الصحفية التي اعلن فيها ‎عن استقالته من رئاسة الحكومة المؤقتة أنه كمواطن يساند مطالب المعتصمين في ساحة القصبة! هكذا وبدون أي تفسير أو اعتذار عن صمته قبل ذلك. ولا يسعنا هنا إلا أن نتساءل: أي مفهوم للتصرف المسؤول لدى السيد الوزير يمكن أن يبرر هذا التصرف الغريب؟ أي رجل دولة يرئس حكومة تقمع حركة شعبية أو على الأقل تتجاهلها حتى تسقط الضحايا ثم يعترف بشرعية مطالبها عند الإستقالة دون أدنى تفسير أو اعتذار؟

فريعة يوبخ ثوار الحرية والكرامة: أريد ان أستحضر كمثال ثان الندوة الصحفية الأولى للسيد احمد فريعة كوزير داخلية‎ في أول حكومة إنتقالية تشكلت بعد الرابع عشر من جانفي، و أتت هذه الندوة إثر أعمال إرهابية من قبل ميليشات و قناصة موالية للرئيس المخلوع أرعبت المواطنين باستهدافها للمدنيين العزل وللمتلكات بطريقة بدت شبه عشوائية. وكان المواطنون يبحثون عن خطاب يهدأ من روعهم و يبعث عن الطمأنينة ولكن شيئا من ذلك لم يحدث بل مر سيادته إلى توبيخ ضمني للشباب على ثورته بتعداد حجم الخسائر المادية غير مكترث بأن الثورة قامت ضد نظام أهدر و صادر لنفسه مئات الأضعاف من ثروات الشعب. ورآى سيادته أن الموقف يستدعي الرد على هذا الشعب المنتفض والرافض لحزبه بالتذكير بنضالات العديد من رجالات التجمع، والعديد منهم نزهاء على حد تعبير الوزير. وهذا الخطاب الذي رفض أن يسمي فيه الشهداء باسمهم مخيرا لفظة أموات هو قمة الإستهزاء بالشعب وهو لاشعوريا تسجيد للنظرة الفوقية التي ميزت الخطاب السياسي التقليدي للنخبة التي استأثرت بالسلطة منذ الإستقلال، هذه النخبة التي ترى أنها وحدها قادرة على قيادة البلاد و تحديد الأولويات والتصورات لمستقبلها بدون تشريك لبقية القوى الحية للبلاد وبدون انتظار محاسبة منها فهي لاترتقي حسب رأيهم الى درجة الوعي الكافي لتضطلع بمثل هذا الدور على أية حال. ويكرس مثل هذا التصرف المفهوم المنحرف للمسؤولية كوصاية على الشعب ناسين أو متناسين أن تونس كما أنجبتهم انجبت العديد من أمثالهم بل ممن هم أكثر كفاءة وأن تحمل المسؤولية تكليف ومسائلة ومحاسبة قبل أن يكون تشريفا.

عبد الفتاح عمر يبرئ المسؤولين عن عقدين من الفساد في أسبوعين: من المضحكات المبكيات هي الندوة ‎التي عقدها الأستاذ عبد الفتاح عمر بعد بضع أسابيع فقط من شروع لجنة تقصي الحقائق التي يرأسها. فقد برئ جميع الوزراء هكذا وبكل ثقة واستباقا لأي تحقيق جدي ونزيه، فما اطلع عليه سيادته في أسبوعين ورغم كثرة الملفات كاف وشاف ليبرئ ساحة جميع الوزراء. وهذا الموقف يغني حسب رأيي عن كل تعليق فالأستاذ لا يرى ان الوزراء مسؤولين وهم كانوا على حد تعبييره ينفذون الأوامر فقط! وبهذا يتناسى الأستاذ أن هذا قبل كل شيء هو استهزاء بالشعب وعدم اكتراث بجسامة مسؤوليته الشخصية كرئيس للجنة تقصي الحقائق. فأي مفهوم للمسؤولية عند الأستاذ عمر يمكن ان يبرئ كل الوزراء هكذا وبكل بساطة؟! فحتى الجنود لا يمكنهم في القانون الدولي تبرير ساحاتهم من الجرائم الجسيمة بالقائها على شماعة تنفيذ الأوامر، فكيف بنظام مدني يعلم الجميع أن الإستقالة منه ليست مستحيلة بالمرة خصوصا في وجود تنافس بين العديد من التجمعيين انذاك لخدمة نظام الرئيس المخلوع.

الشابي يلقى باللوم على الجميع الا على نفسه: وحتى لا نكون قاسين على رجال العهد البائد دون سواهم، أردت أن أشير أن ثقافة المحاسبة والمسائلة لا يستسيغها العديد‎ من السياسين حتى في حركات المعارضة ولربما غياب التداول على قيادة أغلب هذه الأحزاب خير دليل على ذلك. وهذا أمر طبيعي فهذه التقاليد لا تترسخ إلا بالمارسة الفعلية والتي حرم منها المجتمع بأسره وعلى مر العقود الخمس الماضية. وعلى سبيل المثال لا الحصر شدت انتباهي الندوة الصحفية التي خص بها السيد أحمد نجيب الشابي وسائل الإعلام إثر استقالته عقب تولي السيد الباجي قائد السبسي مقاليد لوزارة الاولى. رفض السيد الشابي الإعتراف بالأخطاء التقديرية الفادحة التي قام بها وعلقها كلها على الغنوشي، الاتحاد، أو ضمنيا الحركة الإحتجاجية لمعتصمي القصبة. ولربما لم ينتبه الشابي أنه برهن من حيث لا يدري على أنه من يتحمل المسؤولية دون سواه. فمثلا القى باللوم على رئيس الوزراء لتردده وقلة جرأته، ثم ذكر أن عديد القرارات الهامة كانت تاخذ دون استشارته كعضو في الحكومة ودون علم الوزير الأول في بعض الاحيان.

وهذا ما يوكد أن هناك سلطة خفية كانت تسير دواليب الدولة، واغلب الظن أن هذه السلطة الخفية كانت تتكون من ساسة محنكين من رجالات العهد البائد وأعضادهم من أعداء الثورة داخل الإدارة والتجمع. و كانت هذه المجموعة تخطط على ما يبدو بالتنسيق مع البوليس السياسي وبعض رجال الأمن للإلتفاف على الثورة. ومما يرجح هذه الفرضية اعتراف الغنوشي في خطاب الإستقالة أن مندسين من الدخلاء على الشباب المعتصم في القصبة كانوا وراء عمليات التخريب التي شهدتها العاصمة نهاية الأسبوع الماضي. وهنا عديد الاسئلة تطرح نفسها: لماذا لم يقرر الشابي الإستقالة إذا كان فعلا مغيبا من دائرة القرار في عدة مواضيع حاسمة مثل قضية حل التجمع وقضية تعيين الولاة. فالسياسي المسؤول عليه أن يستقيل في ظرف دقيق وحساس كهذا لا أن يواصل المشاركة في حكومة لا يمكن لها تحمل مسؤولية ما يمكن أن يقترف من أعمال وجرائم باسمها ودون علمها. ألم يكن بهذا يساهم في مسرحية أريد بها الإلتفاف على إرادة الشعب بتمديد عمر النظام البائد مع بعض التحويرات الشكلية؟ هل المسؤولية تقتضي الإنخراط في مثل هذه اللعبة من أجل مصالح شخصية أو حزبوية ضيقة مثل استغلال المنصب للشروع في حملة إنتخابية مبكرة مع ما يحمله هذا القرار من مخاطر على نجاح ثورة ضحى من أجلها المئات من أبناء شعبنا؟

الأكيد أن عقودا من حكم الحزب الواحد والرئيس الواحد والرأي الواحد كرست مفهوما منحرفا للمسؤولية يستهزأ بالشعب وينظر إليه شعوريا أو لا شعوريا بنظرة القاصر الذي لا يرتقي الى مستوى محاسبة رجل الدولة ومسائلته جديا. ومما زاد في تفاقم هذا المشكل انغلاق النخبة السياسية التي استفردت بالسلطة منذ الإستقلال على نفسها ورفضها كل محاولات الإنفتاح والإصلاح.

ولضمان نجاح التجربة الديمقراطية في تونس ما بعد الثورة يجب حسب رأيي ان يلتزم الشعب باليقظة حتى تستقر هذه المفاهيم في الأذهان والممارسات وتصبح تقاليد راسخة. فكما أثبت اعتصام القصبة، عديد السياسيين لم يستوعبوا الدرس بعد، فالإعتراف بالنقائص والأخطاء تقاليد لا تزال غريبة عنهم، والمناصب في قاموسهم وصاية وتشريف لا تترك عند الفشل، وإنما يقع التخلي عنها بعد ظغط شعبي شديد و هائل و متواصل لا يطاق. أما بروتوكول الإستقالة عندهم فينبذ التفسير الواضح والنقد الذاتي النزيه و التقييم الموضوعي ويرتكز في المقابل على إسناد الدروس للشعب بعد الزج به من منبر المحاسب المسائل إلى كرسي التلميذ القاصر، كما يرتكز البروتوكول كذلك وبالخصوص على الإلقاء باللوم على الجميع اإا المسؤول نفسه (فالغنوشي يلقي باللوم على الإغلبية الصامتة و الشابي يحمل المسؤولية للغنوشي وهكذا دواليك!) فإذا على هذا الشعب الرائع الذي أبهر العالم بثورة متحضرة ولربما بأول نموذج لثورة ديمقراطية غاية وأسلوبا، إذ افتقرت الإنتفاضة للقائد الرمز والتنسيق المركزي التقليدي، على هذا الشعب المبدع إذا أن يبتكر آليات لترسيخ ثقافة المسؤولية الحقيقية في وقت قياسي حتى يرسكل هذه النخبة التي مارست السياسة و لعقود طويلة من موقع الوصي على الشعب لا من موقع المسؤول تجاهه.