بقلم صلاح بن عياد، شاعر تونسي،

سيكون محاطا بالأصوات وبالأفواه اليابسة..

يقف الشاعر على قدمين اثنين وعلى كمّ هائل من القصائد التي تعلو أصواتها هي الأخرى وتيبس أفواهها…

قصائد تصرخ مع الصّارخين.

ستحيطه الأيادي المتلعثمة والمتشنجة في آن، وبين حين وآخر سيجابه الخوف بنظرة إلى يدين رقيقتين لامرأة هنا وهناك من تلك الأيادي المتقاذفة في الهواء كما كان يتلهى الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي Vladimir Maïakovski 1893ـ 1930 في قلب مظاهرات الثورة الروسية وذلك بنزع أصابعه كما ينزع بتلات وردة أقحوان ليرى إن كانت تحبه أم لا تحبه ـ امرأته ـ :

هي تحبني، هي لا تحبني

[هكذا] أبحث في يدي

وكنت قد هشمت أصابعي

في وقت تكون فيه أولى رؤوس زهور الأقحوان

قد ميلت بإصبع وسطى

وقد قطفت بلا سك

وقد تناثرت في مايو…

لا ندري أي عمق أصاب هذا الشاعر “في العمق” حتى يتجاوز رحى الثورة الدائرة أمام عينيه إلى عمق شعري نلمسه في شعره الذي منه كتابه “غيمة في سروال”. بينما لم يستطع الشاعر التونسي أن يكون أعمق مما يدور أمام مبنى تلك الوزارة ، وزارة الداخلية، وقد اقتنع أن الوقوف أمامها والصراخ في وجهها ما هو سوى عمق العمق.

لذلك سيؤمن مؤقتا بقواف ساذجة في شعارات مليئة بالحياة. سيقبل سوء استغلال الشعر والرسم والكوريغرافيا والفلسفة في تلك اللحظات. الوقت غير آهل لمنطقه الخاص…لا فن من أجل الفنّ أمام وزارة الداخلية التونسية، ليكن الفن حليفا من أجل اسقاط تلك الوزارة…تلك أبيات من شعر الشابي مثلا وقد كفت عن أن تكن أبيات شعر على المتقارب بل صارت أقرب إلى الدروع الواقية للقلوب الجزعة وماء لبل الريق… هو نفس الجسد مكمن الوجود في الشارع الكبير، نفس الجسد لكنه اليوم يطرد اليوم رؤى الايروتكيين والسرياليين والانطباعيين وغيرهم بعيدا، هو جسد يلبس لباس السياسة القبيح.

تلك ألوان تأتي من لوحات تشكيليّة عميقة لكنها ها هي اليوم تقف عند السطحية، سطحية المطلب وعمقه في آن: الحق في الحياة، الأحمر دم لا غير، الأسود حزن لا أكثر. هذا شارع ننقله بانطباعية ووفاء بسيط لأنه يبدو لنا شارع من شوارع الإبداع المباشر والمرتجل.

هو من طرد كل القصائد الحماسية قبل حماسة الشارع اليوم، هو من لم يرد تحت وطأة إيطيقية ما أن يسقط فيما يسقط فيه المباشرون الراكبون من أجل نجومية ما لا من أجل شعر ما. لذلك ها هو الغريب الصارخ مع الصارخين المؤتلفين. ها هو الحامل لعين ناقدة وأخرى شاعرة لكنه يلقي يديه مع الأيادي.

هو نظام سياسي لم يؤمن بالعمق فلا حاجة أيها الشاعر لأن تكون عميقا الآن. ارضخ للسطحية العامة شكلا ومضمونا، فهو نظام ذو أياد كثيرة لذلك كن يدا متماوجة مع الأيادي، يدا لا قلم لها سوى الحركة المتشنجة، كن يدا تحمل عصا “الفتوات” لحراسة المباشر المهدد الآن…

سيحرس من حين إلى آخر قفزة الشعر على ذلك كله ويحرس تسربه العميق دون أن يراه أحد من الصارخين أمام وزارة الداخلية ووجه البوليس اللاشعري.

سوف يرى تشكل مدرسة نقدية جديدة تحت أشجار الشارع وسوف يرى الجمال العنيف الجارف للقبح المتراص كتلة واحدة.

هو هنا…

لأنه لم يستطع أن يكون هناك على صفحات الثقافة لبلاد مسروقة من أهلها الحقيقيين ولم يستطع أن يكون خارج الخريطة المصغرة لأن لحم يديه ما هو على المحك في هذه اللحظات.

هو هنا يمسك العصا لأنه لم يستطع أن يكون هناك في غرفته المهددة لمسك القلم ـ مع أنه أحيانا يستسمح الحشد الماسك للعصي من أجل بعض القلم، بعض الشعر الجانبي والضروري. هو هنا لأنه لا يستطيع أن يلزم عزلته الاعتيادية وأن يتغنى بالقمر الجميل كما كتب الشاعر الايفواري “شارل نوكان” Charles Nokan:

“لن أغني مجددا

سأصرخ

عندما يكون هناك أطفال يموتون جوعا

لا أريد أن أعرف أن القمر جميلا

وأن للوردة عطرا رقيقا

لن أغني مجددا

سأطلق صرخات متمردة”

كان لابد من شاعر يصرخ “صرخات متمردة” وسط ذاك الحشد، كان لابد من شاعر شاهد على ورطة الشعر والنقد معا أمام ما يحدث في تلك اللحظة أمام وزارة الداخلية ـ عمق الديكتاتور ولا شعريته المثلى.

الصدر الشعري الصارخ في وجه ما عنته وزارة الداخلية طويلا وما تعنيه دائما هو نوع من مواجهة المتغنين بعصي الداخلية وبنظرة الدكتاتور الهازئة زمنا طويلا من أولئك العصابات الثقافية والفلسفية والفنية. الصدر الشعري الصارخ هو أيضا من أجل وضع التجارب التي على الهامش على محك ما. فهل هي تجارب جديرة بالمرحلة الصارخة في هذا الوقت المحدد الذي سينتقل لا محالة إلى مرحلة أكثر هدوءا لكن أكثر خطورة ربما.

هو شاعر يصرخ دون فهم ولو حرف واحد من صرخته. إذ ما هي؟ ومن أي قريحة تنبعث؟ لأي لحظة ستؤول؟.

لم يكن ليحبذ الصراخ قبل هذا لأن الصراخ ليس من مشمولات قناعاته الشعرية “الشخصية” فالشعر في لحظته الراهنة راح يبتعد عن ذاك الصراخ ويكاد يكف عنه نهائيا. شعراء كثيرون ابتدؤوا به لكنهم انتهوا إلى الهدوء الشعري الأعمق. الشاعر الفلسطيني محمود درويش من أولئك الشعراء. فلم تتضح معالمه الشعرية إلا عندما انتقل من صرخة “شجل أنا عربي” إلى هدوء “سأصير يوما شاعرا”.

إلا أن “الآية” منقلبة ها هنا أمام وزارة الداخلية التونسية، فلك أن تجد شاعرا التجأ إلى الصراخ بعد أن بدأ بذاك الهدوء والتأمل الشعري ضمن سياق حداثي لا مجال لتناوله هنا. بل هو يثجاوز الاستسلام لصراخ شعري قاهر يقتضيه الحدث إلى صراخ فيزيقي ينبع من جسده الخاص بصوته وصورته وطاقته، صورة هي أقرب إلى ذاك المعتوه الصارخ في الشارع الكبير.

هل الشاعر من يصرخ أم هو أحد الكائنات الأخرى أم الأشياء الأخرى؟. هل يتحول الشعراء الصارخون هنا وهناك من واجهة الوزارة الداكنة إلى كائنات منفصمة.

قد يكون الكائن العام من يصرخ في تلك اللحظات، الكائن الفيزيقي الذي حرم دائما من فيزيقيته. قد يكون الشاعر فيه من يصرخ وقد كف عن عمق قديم في لحظة تتصاعد فيها قواميس جديدة ورؤى جديدة واستعارات من طينة أخرى. هو يصرخ في السياق العفوي الذي جمع الصارخين. يصرخ ويرافق الصرخة بتساؤله ويحاول “العمق” باصطياد الصور الشعرية والفكرة والرؤى الفنية المتصاعدة نصاعد الصراخ، الحافرة لحيطان “الداخلية” المتداعية أمام الصراخ.

ها هو يمني النفس بشعر واضح وعميق يستوعب الصرخة بهدوء.

لم تكن رموزنا الشعرية الهادئة مجدية في تلك اللحظات ولا اضرابنا الطويل عن الحياة الثقافية كان مجديا هو الآخر، إذ كنا موضوعين على حافة لا ضوء فيها وكنا نندس مع كل الشرائح الصارخة الآن طلبا للدفء وكفا عن شكوى الانتماء. ها هم يصرخون باسمنا ونصرخ باسمهم ويخنلط صراخنا أمام الوزارة الجائرة التي هي “عمق الديكتاتور”.

لقد وجب الآن سداد ديون الصارخين ببعض القصائد وببعض الفن الوفي لذاك الصراخ وللطبيعة العميقة للفن طبعا.

نعطي صراخهم الفن كله وحركات أياديهم نعطيها ما يكفي من شرعية كوريغرافية إنسانية لأنها لم تكن لتكتفي بطلب خبزة بسيطة بل كانت تطرد مهينا أهان طويلا “البشري” و”الإنساني” والفني.

الصارخ فيه كان إذن كل هذا مع متأمل وشاعر وباحث مشرف على كل ذلك.