المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

استوقفتني جزئية تداولها شباب مصر الثائر في تواصله على الفايسبوك وهي تجنب وجود رموز الأحزاب في مقدمة المظاهرات وفي ذلك رسالة أرادوا تبليغها بكل وضوح وهي أن الثورة هي ثورة الشباب أشعل فتيلها الشباب وليست الأحزاب السياسية. لعل شباب مصر استوحى هذا التكتيك من ثورة شباب تونس الغاضب الذي انطلق من خارج سيطرة السياسيين المحترفين لأن ما تحرك من أجله ليس تعبيرا أو تجسيما لبرنامج أي حزب ولأن زمانهم ليس زمان أي من الأحزاب القائمة مهما تعددت أطيافها.

وما نستمع إليه اليوم في الإذاعات وما نشاهده على القنوات التلفزيونية وما نقرأه في الصحف الورقية أو الإلكترونية التونسية تتواتر فيه بكثرة عبارات مثل “خطر الالتفاف على الثورة” و”مراقبة الحكومة” وغير ذلك من الكلمات التي تعبر عن الحذر والدعوة إلى اليقظة. ونشاهد حضورا ملفتا لشخصيات تدعى للحوار على منابر القنوات التلفزيونية متقدمين في السن كانوا قد اشتغلوا بالسياسة في شبابهم أو تقلدوا مسؤوليات في الحكومة أو الأحزاب أو المنظمات أو هم وزراء في الحكومة المؤقتة الحالية. لكن بقدر ما للخبرة من أهمية في تشخيص وتحليل ما حدث، بقدر ما لا يبرز من خطابهم رؤى حديثة ومبتكرة من شأنها أن تشفي غليل من يريد أن يتخطى التشخيص ويبحث عن تصور ولو جزئي للمستقبل ينبئ بما سيكون عليه تجسيم أهداف الثورة.

وعوضا عن تركيز الحوار من أجل بلورة هذه الرؤى، يجد المتلقي نفسه مشدودا إلى الماضي وأفعال جماعة بن علي والطرابلسية و هناك من جاء بمشروع يكرس سيطرة “الكبار” وهو لجنة من “الحكماء” لمراقبة الحكومة متكونة من شخصيات تخطى سن البعض منهم الثمانين سنة! تصوروا المسافة التي تفصل بين هؤلاء وجيل الثورة الذي تقلد سلاح التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية حيث يتواصل بمفردات ولغة وقيم مستحدثة لا يدركها الكثير من المسنين “العقلاء” ومن أهم مظاهر الاختلاف هو تعامل الشباب بين بعضهم على خط أفقي بمعنى أن المشاركة هي المطلوبة وليس الانصياع إلى قرارات تؤخذ في مستوى عالي في الهرم التنظيمي كالذي تخضع له غالب المنظمات السياسية والإدارية المعروفة.

فهل يمكن المحافظة على جوهر أهداف الثورة حتى قطاف ثمارها إذا كانت هناك فجوة في المفاهيم والمنهجيات بين هؤلاء وأولئك؟ ألم يحن الوقت اليوم أن يتحمل الشباب الذي ليس ناقصا عقلا ولا حكمة، مسؤولية مراقبة الفترة الانتقالية والإعداد لما سيتبعها من بناء للديمقراطية والحكم الصالح؟ ألم يتولى من قبله شباب الثورة التونسية على الاستعمار إرساء أسس الدولة المستقلة بعد انقلابه على الحزب الدستوري القديم؟

رغم كل الاحترام الذي يجب أن نكنه لبعض السياسيين القدامى الذين ناضلوا وضحوا من أجل نظام كانوا يريدنوه لائقا بالشعب التونسي، فإن مفردات هذه الثورة تختلف عن المفردات المعهودة للأحزاب سواء كانوا يساريين أو يمينيين أو من الوسط، وهي مفردات مبتكرة لأنها ملتصقة بواقع جديد ولا يمكن حصرها في ثوب نظريات سياسية قديمة وأيديولوجيات قرون خلت. الآن حان وقت بلورة هذه المفردات. إن الشباب الذي ابتدع صيرورة الثورة وشعاراتها ونجح في خلع الطاغية لقادر على صياغة هذه المفردات. و هو قادر على بلورة طرح سياسي جديد يتناغم مع العصر ومع طموحاته وتصوره لمستقبل البلاد في ظل ديمقراطية مستدامة وقبول لمبدأ الاختلاف الذي كان فاعلا لما انطلقت الانتفاضة معبئة جموعا من كل الفئات وكل الجهات دون استثناء ودون تمييز. وهذا ليس في استطاعة الشباب فحسب وإنما مطلوب منه اليوم قبل الغد. فما يدعو إلى الخوف هو أن يكون الشباب، أكبر ضحية للنظام السابق فاقدا لمشروع سياسي وبالتالي معرضا لخطر التغييب في هذه المرحلة الانتقالية التي من المفروض أن يقع الإعداد فيها للاستجابة إلى طموحاته. وقد بدأت العديد من المؤشرات تطفو على السطح منها متوسط السن لأعضاء الحكومة الانتقالية وجلب أغلب الأصغر سنا منهم من المقيمين بالخارج !

وفي الأثناء نجد الشباب يتحاورون على الفايسبوك ونجد الإعلام مشغول بثروات الطرابلسية وتحركات سيدتهم ليلى، ولا حديث عن سياسة لتغيير الحوكمة (gouvernance) بالجهات ولا عن التشغيل لا عن بعث المشاريع، وعندما يبادر البعض بالخوض في الشأن الاقتصادي هناك من ينادي بالرجوع إلى الأنموذج السوفيتي الذي هوى لأن مبدأ الدولة الأبوية لا تحمي الشعب من مخالب الانتهازيين وخراب مؤسساته الاقتصادية “المؤممة” وهناك من يستغيث لأن الكثير من المؤسسات مهددة ومعها مواطن الشغل التي قدرها البعض ب 300.000 بالمؤسسات ذات رأس المال أجنبي وحدها. وهناك من يطلع علينا بمفردات قانونية أو نظرية مجردة وهناك خطاب آخر سيطرت عليه المطلبية بجميع أشكالها تتخللها أحيانا ضروبا من الانتهازية والتشويش وتطعيم الفوضى بالإضافة إلى رغبة حادة عند البعض في التشفي وتبرئة الذات (غير البريئة!) من خلال الدعوة إلى إقصاء فئات برمتها، كل على هواه مرة يكون التجمعيون ومرة أخرى اليساريون أو الإسلاميون أو المعارضون الوطنيون أوالنقابيون… والقائمة لا تنتهي.

وقد بدأت تشتم رائحة وأد الثورة والانزلاق الخطير نحو رفض كل شيء وكل من ظهر على شاشة التلفزيون، ونحو العنف اللفظي أو الجسدي الذي لا يسلم منه لا مسؤول إداري ولا عون أمن ولا مربي ولا غيرهم ممن ليسوا بالضرورة ممثلين للنظام السابق وإنما هم من ضحايا جبروته. هذا الوضع غير صحي البتة وهو يتطور نحو الأخطر وعلى الشباب أن يعي بذلك إن أراد صون ثورته.

بعدما انطلقت هذه الثورة الرائعة بما أعادته من كرامة للتونسي، وبعد التضحية بعديد الشهداء رحمة الله عليهم وصبرا جميلا لأهاليهم، ينبغي الآن على الشباب الدخول في مرحلة العمل على إنجاح الثورة وقطاف ثمارها وهم القوى الحية للبلاد التي طال تهميشها وتغييبها عن الساحة السياسية والحياة العامة، في ظل نظام لا يسمح ببروز قياديين محليين يعبرون عن الضمير الجماعي.

من الآن وإلى موعد الانتخابات المرتقبة، لدى الشباب الوقت الكافي ليعملوا على تنظيم أنفسهم وعلى بلورة مشروع سياسي لا يكون إعادة لنظريات تخطاها الزمن ولا لروشتات (recettes) جربت ولم تنجح في تغيير المبادئ السلطوية الفردية التي قام عليها الحكم منذ الاستقلال. ينبغي على الشباب اليوم أن يشتغلوا على بلورة رؤاهم في مختلف القضايا التي تحدد مستقبل تونس ويتصوروا برامج سياسية تهم جميع القطاعات وبخاصة الحوكمة الوطنية والجهوية ((gouvernance nationale et régionale، يدخلون بها معركة الانتخابات المنتظرة سواء في إطار حزب أو أحزاب أو أي تنظيم توليفي يأخذ الشكل الذي يتناغم مع تصوراتهم. على الشباب أن يحددوا مواقفهم من قضايا مثل النظام السياسي ودور الدولة في الاقتصاد، وتموقع تونس في المحيط العالمي وسياسة التنمية والتشغيل وسياسة التربية والتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا وكذلك مفهومهم للجهة وحوكمتها ومؤسسات الحكم والحكم المضاد بها، وتصورهم لتفعيل مستدام لمبادئ الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان بما فيها الحق الاقتصادي… وهذا يتطلب زيادة على التطلعات جهدا فكريا وإطلاعا وعملا مشتركا فيه تعبئة للقدرات والخبرات المتاحة.

لقد علمنا التاريخ أن الثورات تنطلق من حركات اجتماعية فيها اندفاع وغضب جامح تنطلق من هدف رئيسي ثم تتفرع أهدافها، ولكن تطغى عليها التلقائية والعفوية مما يقود أحيانا إلى العنف وإلى الانكسار في غياب مشروع سياسي مكتمل قادر على التعبئة وفي غياب قياديين تفرزهم هذه الحركات ويقدرون على تعبئة الطاقات من أجل الانتقال من الاندفاع إلى العمل السياسي القادر على تجسيم التطلعات. فليشتغل الشباب على تصور مشروعهم ولتفرز حركتهم قياديين يؤطرون عمله التشاركي وليس زعماء نرجسيون من طينة الذين يتحينون الفرصة ليتحولوا بسرعة إلى حكام مستبدين.

رياض الشعبوني الزغل
أستاذة متميزة في العلوم الإدارية