تتنزل الأحداث الجارية منذ أيام في مدينة سيدي بوزيد و مختلف معتمديات ولايتها في سياق سلسلة الإحتجاجات الشعبية التي إنطلقت بمدينة الرديف و امتدت إلى مختلف مدن الحوض المنجمي بولاية قفصة منذ حوالي سنتين ثم تكررت بمدينة بنقردان من ولاية مدنين منذ مدة فضلا عن عديد الحالات المحدودة نسبيا في عدة مناطق أخرى مشابهة من الجمهورية.

و الدلالة الأولى لتواتر هذه الموجات من الإحتجاجات الشعبية التلقائية والبعيدة عن أي تأطير أو تنضيم مسبق تؤشر عن عمق الهوة التي باتت تفصل بين الفئات الشعبية و النخب السياسية سواءا كانت في سياق الموالات أو المعارضة و التي تفاجأت على السواء في كل مرة باندلاع الإحتجاجات و بحدتها و تجذر مطالبها. كما أبرزت في كل مرة تنازع المناهج الخاطئة في تناولها بين التعيم و التوضيف وقدمت بذلك النخب السياسية الحالية الدليل على إرتهان كل من شقيها لأجندته الخاصة و عجزها عن التجاوب مع مطالب المحتجين و بالتالي الإنخراط في الطريق المؤدي إلى حل المشاغل الحقيقية المعبرة عنها.

لذلك و بقطع النضر عن المشاغل و المطالب التي رفعتها هذه الإحتجاجات و عن الأحداث المباشرة التي أدت إلى إنفجارها يمكننا القول من الآن و دون تردد أن مثل هذه الإحتجاجات ستتكرر بمناطق أخرى من الجمهورية و ربما بوتيرة أسرع وبحدة أشد دون أن يملك أحد السيطرة عليها أو القدرة على توجيهها باستثناء المواجهة القمعية التي لن تزيد إلا في تأجيجها و تعميق الإحتقان الكامن خلفها.

و هكذا و إذا كان لابد من قراءة موضوعية لهذا السياق الإجتماعي من خلال التحولات التي يبشر بها فإنه لابد من الإقرار أننا نتجه حاليا إلى أوضاع لا تتسم بالإستقرار و تزيد من صعوبة فرص إدخال الإصلاحات السياسية المزمنة و تهدد بشكل جدى المكاسب التي تحققت لحد الآن و خاصة علي مستوى الوضع الإقتصادي.

ورغم أن المجال لا يتسع هنا لاستعراض أوضاع الحرمان و التمييز و التهميش التي عانت و تعاني منها فئات عريضة من المجتمع التونسي و جهات شاسعة من تراب الجمهورية و التي شكلت الإرضية التي إنطلقت منها إنتفاضة الخبز في آخر عهد الرئيس بورقيبة و تشكل أرضية الإحتجاجات الحالية في عهد الرئيس بن علي فإن ذلك يؤكد انه لم يتم لحد الآن إدراك الحلول الملائمة لمعضلة التهميش الإجتماعي و التباين الجهوي التي أفرزتها السياسة التنموية المتبعة منذ الإستقلال.

و هذه الأوضاع الصعبة التي تنذر ببلادنا وبمستقبلنا جميعا إنما تضعنا جميعا امام إمتحان الخيارات الصعبة و هي الخيارات الحقيقية التي تتمايز فيها الشعوب بين الفتنة و الإضطراب و الإخفاق وبين الإصرار و التضحية و الإنتصار. فلا فرق في مثل هذه الأحوال بين من يلعب بالنار و بين من يطلقها على أبناء وطنه لأنه إذا وقعت المراهنة على الحل في هذا المستوى فإن الحريق لن يستثني احدا.

إننا بحاجة اليوم إلى الإصغاء إلى سيدي بوزيد، إلى بنقردان‘ إلى قفصة و إلى مواطنينا بكل الجهات و المدن و القرى المهمشة و المحرومة بكل رحابة صدر بأذن العقل و منطق العدل و الإنصاف لإدراك حقيقة حاجياتهم وللمساهمة معهم في تلمس أنجع السبل لإصلاح أوضاعهم مع الوعي بأن ذلك لن يتأتى إلا بإدرك كل تونسي بأن له في هذا الوطن نصيب.

فإلى متى سنضل ننتضر لإدرك ضرورة إقرار منحة بطالة تعيد الكرامة للمقصيين من حقهم في الثروة الوطنية و إلى متي سنضل نتجاهل ضرورة الإقدام على مخطط وطني للتوازن الجهوي تعبأ له الموارد بآلاف المليارات من الدنانير لا بالتلويح بمجرد الفتات كما حصل أخيرا. و إلى متي سنواصل التعامل مع بعضنا بعضا بفلكلور قوافل التضامن و الإعانات و 2626 فمواطننينا لا يحتجون طلبا للصدقات و المنن و إنما طلبا للعمل الشريف و الحياة الكريمة.

إن الأزمات يمكن أن تتحول إلى منصة للقفزفي سلم الحضارة و الرقي و الثورة الحقيقية ضد الحرمان و الضلم الإجتماعي إنما تتحقق من خلال مضاعفة فرص العمل و تكثيف الإستثمار و فتح أبواب جديدة لكل من يشعرون اليوم بأنها موصدة أمامهم في سبيل تحقيق رفاههم و تحسين مستوى عيشهم و أوضاعهم فالمجتمع الديموقراطي الذي نرنو إليه و دولة القانون و المؤسسات التي نسعى لبنائها لا يمكن أن يتحققا باستغلال مشاعر الضلم و الحرمان.

المختار اليحياوي – تونس في 25 ديسمبر

www.tunisiawatch.com