تعرض الصحفي الشاب توفيق العياشي المحرر بصحيفة “الطريق الجديد”، إلى اعتداء غادر وجبان في حدود الساعة العاشرة والنصف من مساء الأربعاء 10 نوفمبر 2010 عندما كان عائدا إلى بيته الواقع بمقرين في الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة. فقد انفرد به ثلاثة أشخاص كانوا في انتظاره عند نزوله من الحافلة عدد 19 التي كان يستقلها، وأشبعوه ضربا وركلا ورفسا وخنقا قبل أن يستولوا على حقيبته بما حوته من وثائق إضافة إلى هاتفه الجوال ونظارته الطبية.

وبعد انسحاب اثنين من المعتدين حاملين معهما ما تم الاستيلاء عليه، ظل ثالثهما ممعنا في ركل الصحفي المسالم الملقى أرضا والذي لم يكن يبدي أية مقاومة لدخوله في شبه غيبوبة. ولم يتركه إلاّ بعد أن أخمد فيه كل إمكانية للحركة.
الصحفي المعتدى عليه تحامل على نفسه بعد فترة ليتابع طريقه إلى مسكنه. ومن هناك حمله صهره على متن سيارة أجرة إلى مركز الأمن بمقرين أين تم تسجيل أقواله في محضر رسمي ثم دعوته للتحول إلى مستشفى الحروق ببن عروس. ومنه تحول إلى مستشفى الهادي الرايس للعيون بباب سعدون، ثم مستشفى الرابطة. وكان وهو في حالته تلك، مطالبا بأن يعود في كل مرة قبل دخول أيّ مستشفى، إلى مركز الأمن بمقرين للحصول منه على تسخير طبي. وأثبتت الفحوص المجراة عليه إصابته برضوض بليغة وكدمات في الوجه، ورضوض في مستوى الضلوع، فضلا عن كسر يده على مستوى الخنصر.
في الصباح تم استدعاء الزميل الصحفي توفيق العياشي إلى مركز الأمن بمقرين للتعرف على أحد المشتبه بهم، تبيّن لاحقا عدو تورطه في الاعتداء. ومن ثمّ تمّ توجيهه إلى إدارة الشرطة الفنية بنهج غانا بتونس العاصمة لإنجاز صورة تقريبية للمشتبه بهم.
أحد أعوان الأمن الذين تداولوا موضوع الاعتداء، سأل الزميل عن سبب تأخره في العودة إلى منزله، مبيّنا أنه شخصيا ورغم اشتغاله بالسلك الأمني، لا يغادر منزله بعد الساعة الثامنة ليلا. في ما أكد له عون آخر بأن حالة الاعتداء الحاصلة غريبة لتجاوز مستوى العنف فيها المدى الملاحظ في حالات اعتراض السبيل المماثلة. وبأن خبرته الطويلة في الميدان تؤكد بأن الاعتداء تقف خلفه تصفية حسابات. وطلب من الزميل المعروف بدماثة أخلاقه وحسن معشره، أن يتذكر إن كان له أعداء في المهنة؟
ويجدر التذكير بأن الصحفي توفيق العياشي كتب في بطاقته الأسبوعية بالعدد الأخير (204) من صحيفة “الطريق الجديد” مقالا نقديا تناول فيه عددا من المواضيع المحرمة أو التي تم منع التداول فيها مثل قضية الطفل المخطوف منتصر الذي تحولت إلى لغز محير للرأي العام خاصة بعد أن دخلت درج التعميم القسري. إضافة إلى انتقاده للتمسك بمنهج التعامل الأمني الفاشل مع القضايا الاجتماعي، وغير ذلك من القضايا الحارقة بما فيها الفساد المرتبط بدوائر القرار.
أطراف عديدة داخل الوسط الإعلامي تتساءل حول ما إذا كان استهداف الزميل توفيق العياشي قد جرى على خلفية كتاباته الصحفية النقدية؟ فهل كان “البراكاج” المزعوم مجرد غطاء مفضوح للتستر على عمل تصفية حساب جبان ضد صحفي “مزعج”؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن هي الجهة التي تقف خلف الاعتداء؟
أيّا كان الجواب، الصحفي توفيق العياشي لم يخف استغرابه من المفارقات العجيبة التي جعلته يعود سالما من غزة أرض التماس مع آلة الحرب والعدوان الإسرائيلي، ليقع الاعتداء بهذا الشكل الفظيع في وطنه بلد الأمن والأمان؟ لذلك بادر بإعداد طلب للسيد وزير الداخلية للحصول على رخصة حمل سلاح يحمي به نفسه، بعد أن عجز جهاز الأمن الرسمي عن لعب دوره الطبيعي والدستوري في الحفاظ على أمن المواطنين وأعراضهم وممتلكاتهم؟

زياد الهاني


وفي ما يلي النص الأخير للزميل توفيق العياشي في بطاقته الأسبوعية “الصندوق الأسود”:


الصندوق الأسود: جُزر “الشاق واق”

تغيب عن هذه الأرض لأيّام وأنت مطمئن على أنها سوف تبقى في أياد أمنيّة أمينة تنام وتصحو على الاسطوانة ذاتها: أزمة “الجمعيّة”، وتصريحات رجل مسرح حاول أن يثبت أنه نجح في العبور إلى ما بعد الحداثة فاعترف بخيانة زوجته في برنامج تلفزي معتقدا أن الخيانة قيمة تقدمية وأن الوفاء هو الرجعية بعينها، وذلك مخافة أن يتورط في اقتراف معصية مزدوجة تجمع بين الخيانة والكذب في سجل واحد، فيكون بذلك مثله كمثل الجماعة الذين تاهوا في الصحراء فأخذ منهم الجوع والظمأ مأخذا الى أن وجدوا عجوزا ترعى معزة فعمدوا إلى قتلها لكي يتسنى لهم ذبح المعزة وأكل لحمها، لولا أن أمرا ما قد جعلهم يعدلون عما عقدوا العزم عليه ودفعهم الى عتق عنق المعزة من السكين وهو اختلافهم في تحديد وجهة القبلة حتى تكون ” الذبيحة حلالا”..هذا فضلا عن اسهال السخط الذي أعقبت اعتراف مخرج سينمائي أتم معالجة جميع شواغل عصره قبل أن يخلص في عمله الأخير الى أن ثلاثة أرباع فتيات تونس هن ثُيّبات(فاقدات للبكارة)، فأحدث “اكتشافه” زوبعة تحتج على “الطعن في شرف” نصف المجتمع، دون أن يتبين قبل أن يصيب قوما بجهالة، ويكشف ما تستر خلف جدران الرياء المجتمعي الذي يجعل النظام الاجتماعي لا يحتج على الظاهرة بل يحتج على فضحها عملا بالقول الذي يدعو إلى الاستتار عند “المعصية” …

تعود اذا بعد رحلة في محيطات متقلبة تضج بالأحداث التي تقلب حياة مجموعات بشرية رأسا على عقب وتحدد مصائر شعوب، تعود الى الأرض الطيبة الوديعة الأليفة، فتجد أن الحلقة الأبرز في مسلسل الأحداث تحتل عنوان “الشاق واق”، وحديث عن منع العروض واحتقان في صفوف مُبدعى الأنصاف السفلى وغمغمات تريد أن تدين الرقابة جهرا ولكنها تعيد ملزومة “التثمين والمطالبة بالمزيد” ولو بتركيبات لغوية أكثر حيوية من ملافظ الخشب، حتى لا تثير غضب الحوزة الثقافية فيضيعون بذلك صكوك الغفران ويحرمون من جنان الدعم الذي لا يشمل سوى المبسوطين والباسطين لجناح الذل…
تعود لتجد أن المخرج الشاب نصر الدين السهيلي مغتاظ جدا ومنتفض ضد منع عرض “شاق واقه” الجديد في أيام قرطاج السينمائية التي تميزت هذه السنة ببدع كثيرة أهمها الكشك الذي تم نصبه وسط شارع الحبيب بورقيبة ليكون مثابة دالة على أننا في شهر سينمائي من الأشهر الحرم التي تستوجب الطواف حول أكشاك السينما في شارع الحبيب بورقيبة وغيرها من المطارح التي تحتكر احتضان مواسم الحج الثقافي . وتكتشف أن سبب المنع حسب تصريحات صاحب الفيلم تعود الى خوضه في موضوع التطرف الديني بطرح لا يتطابق مع السيناريو الامني الذي أُعلن عنه عقب أحداث الضاحية الجنوبية في ديسمبر 2006 والذي يحمل عنوان “وقتلناهم جميعا”، وان كانت فكرة العمل متناسقة تماما مع الطرح العدائي لظاهرة التطرف الديني ولو بترميز يصل في مفاصل كثيرة منه إلى حد الإبهام التام، ومنسجمة تماما مع الخط التجريمي لهذا الورم المرابط على تخوم الانغلاق .
صفوة القول أن الرقابة اللا ثقافية حاولت منع الفيلم لعدم إيمانها بفكرة أن الحرب على هذه الظواهر تتطلب جناحا ثقافيا وفكريا أكثر عمقا وتأثيرا من الجناح الأمني، جناح يحاول تفكيك هذه الظاهرة وإحراجها ومحاججة حواملها الاجتماعية والفكرية وبسطها أمام الناس لتحسم في أمر محاصرتها بعيدا عن سيناريوهات تطويق الجبال وتمشيطها بالمروحيات والمداهمات والاعتقالات وغيرها من الوصفات العلاجية التي لم تنجح في استئصال الداء وخلق منظومة وقائية قادرة على تحصين المجتمع من هذا المارد المتوثب في منعطفات تاريخ البلاد.
قبل أن تشاهد العمل الممنوع قد يذهب في الاعتقاد أن المخرج الشاب أعاد الكرة وأنجز عملا يحاكي ما ظهر في فيلمه الأول “بوتلّيس” الذي عرض خلال أيّام قرطاج السينمائية سنة 2008 والذي جاء مكتنزا بصور صادمة تظهر أجسادا ذكورية عارية تماما وقد برزت أعضاؤها التناسلية دون أدنى تورية ولا محسنات إيحائية مطلوبة حتى في “التلفزات الثقافية” المشفرة، ولا حتى مجرد إشارة تحذير ولفت انتباه على أن الفيلم متاح لفئة عمرية لا تقل عن 16 سنة على الاقل، مما جعل العرض الذي احتضنته دار الثقافة ابن رشيق حينها يشهد توافد عدد كبير ممن لم تتجاوز أعمارهم 12 سنة..ورغم ذلك تسرب الفيلم من بين طيات الرقابة الثقافية والأمنية وعُرض دون أدنى تضييق، ولا محاولات منع ولا تدخلات مباشرة أو غير مباشرة للـ”النمور” (هكذا سماهم صاحب الشاق واق).
أما الان وقد تعلق الأمر بمحاذير تتعالي عن الدرك الأسفل من الجسم وتسمو لتصل الى المحاذير الفكرية، فهنا تقف الة الرقابة مستنفرة بعد أن تأكد لديها أن مارد السينما التونسية يمكن أن يخرج من قمقم عقدة الجسد الذي حال دونه ودون التجذر في واقعه على امتداد سنوات قحط فكري..عندها فقط يحسم حاكم جزر “الشاق واق” قرار تدخله ليبقى الحديث عن التطرف وتمظهراته وانعكاساته “كلام عيب” لا يحتمل أن تتعالى أصوات أصحابه فوق صوت الرصاص الذي أرعب ذات شتاء أهالي مدينة سليمان وضاحية حمام الأنف.
يحدثونك وأنت العائد إلى بلد الأمن. أن طفلا آخر قد اُختطف في ظروف غامضة وأنه، وفي سابقة تاريخية هي الأولى (ويبدو أنها الأخيرة)، يعلن التلفزيون الرسمي نبأ اختطاف طفل ويعرض صور محتملة لخاطفيه ويضع رقما أخضر لمن يتعرف على هوية الجُناة شبيها بذلك الرقم الذي وضعه القائمون على احد النظم العربية الوحدوية على ذمة الشعب الكريم للإعلام عمن يشتبه في أنه “عدوّ للثورة”، وتهرع صحف واذاعات وتلفزات للنهل من الوليمة الخبرية كل على طريقته الاستعراضية الخاصة، قبل أن يُعلن فجأة عن نهاية خط السباق، وتبتلع جميع الألسن الإعلامية ما تداولته حول الحادثة، ويعود الملف ليغرق في الظلام الذي يحف عادة حروب الحيتان الكبرى، تلك التي تدور في ميادين لا ترتقي إليها أنظار السواد الأعظم من شعوب جُزر “الشاق واق”.
اختفى منتصر بشهادة النشرة المسائية الأولى للأنباء التي وقع تقطيع تغطيتها وتداولها على الانترنت كقطعة أثرية نادرة أو لقية ثمينة لن يجود تاريخ تلفزتنا الوديعة بمثيلها، ولم يتسن بعد التأكد من مصير الطفل ومال خاطفيه وتفاصيل مسلسل العبث المافيوي الذي أصبح يعربد في البلاد الى حد أصبحت فيه السيارات المدنية تطارد سيارات الشرطة وتُحاصر المراكز الأمنية وتعتدي على أعوانها.. وعُرض فيلم “الشاق واق” في “بانوراما” أيام قرطاج السينمائية قبل إمكانية قبره إلى الأبد، وأعلن عن فتح معبر بن قردان بصفة دائمة وإنشاء سوق حرة بين تونس وليبيا بعد ضمان ألا يجوع الذئب مقابل أن لا يشتكي كبير الرعاة.. وتُوج مؤتمر منظمة المرأة العربية ببيان تحدث عن حقوق المرأة العربية في المساواة وتكريس قيم المواطنة وحق المرأة في المشاركة المبدئية للرجل في هذه القيم في انتظار تحققها لكلا الجنسين في أرخبيلنا العربي الواحد، وانفرجت أزمة أسعار البطاطا بعد أن غنم المحتكرون ما يغنيهم عن مواصلة لعبة العبث بالتسعيرة.. وتوقفت نشرة الأخبار الرئيسية لتثبت أن “الحالة عادية” وألا شيء يتغير في جزر “الشاق واق” حتى لو انقلب العالم رأسا على عقب.

توفيق العياشي / الطريق الجديد عدد 204