بقلم عماد الدائمي وسليم بن حميدان (*)

ينتاب الكثير من التونسيين اليوم شعور قوي بأن البلاد أضحت على أعتاب تغيير جديد يعيد فيه التاريخ نفسه. كما يتملك أغلبهم وعي ثاقب بأن هذا التغيير لن يكون بانتفاضة شعبية ولا بانقلاب عسكري ولا باستفاقة ديمقراطية لحكام البلاد الحاليين، بل لن يكون الا “بيولوجيا”: أي تغيير من داخل الجهاز على اثر وفاة الرئيس الحالي أو ازاحته أو تخليه بسبب المرض في أجل أقصاه آخر الدورة الرئاسية القادمة.

شعور ووعي جماعيان يوحدان أغلب التونسيين ويدفعان بهم إلى حالة إحباط وعدمية غير مسبوقة زادها حدة اهتزاز منظومة القيم والمعاني الناظمة لوجودنا وهويتنا كجماعة وطنية تحلم بالحرية والتنمية واللحاق بركب الأمم المتقدمة.
حالة من الانتظارية المقيتة ومن انسداد الآفاق والخوف من المستقبل سادت أغلب شرائح المجتمع وخصوصا طاقات البلاد وكفاء اتها ونخبها ومستثمريها.

حالة تذكر بقوة بالوضع النفسي للتونسيين في آخر سنوات حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، عندما توقفت الحياة أو كادت، وبلغت الأزمة مداها، وأدرك الجميع من داخل أجهزة الدولة ومن أطراف المعارضة ومن عموم الشعب ومن القوى الدولية والإقليمية المؤثرة أن شروط التغيير تحققت وأن اللحظة آنت ليقطف قطاف الحكم في البلاد. فكان أن جاء انقلاب السابع من نوفمبر 1987 متلقفا انتظارات التونسيين ورافعا لشعارات أعادت للكثير منهم الثقة والأمل، لتنطلق دورة جديدة من الحراك والتدافع كشفت في زمن وجيز عن طبيعة النظام الجديد ونواياه، وأفضت بعد أكثر من عشريتين الى الوضع آنف الذكر الذي أضحت عليه البلاد اليوم.

وحري بنا والبلاد تبدو على أعتاب تغيير جديد، قد لا يتأخر كثيرا، أن نتمعن جليا في مسار “التغيير السابق” للنظام الحالي ونتدبر في أسباب انتكاسه وارتكاسه الى ما دون الحالة التي انتفض عليها قبل أكثر من عشرين سنة، لنستخلص معالم الواجب الوطني الملقى اليوم على عاتق قوى البلاد الحية وعلى رأسها أحزاب المعارضة الوطنية وفاعلي المجتمع المدني من أجل كسر تلك الحلقة المفرغة وفرض اطار صارم وضوابط مقيدة وكابحة ومرشدة لأي تغيير قادم.

7 نوفمبر 1987 : تاريخ وعبرة

لم يكن “تغيير” 7 نوفمبر 1987 دستوريا ولا حتى تونسيا.

لم يكن دستوريا لأنه وقع ليلا عندما كانت المؤسسات الدستورية نائمة، ولم يكن تونسيا لأن الأمر جاء من الضفة الأخرى للمتوسط.

لقد كان انقلابا فرضته الضرورة البيولوجية المتمثلة في بلوغ الراحل بورقيبة سنا لم يعد فيها قادرا على الاستمرار في الحكم. كانت الأوضاع آنذاك تستعد لقبول ” تغيير”، أي تغيير، بل تستدعيه حثيثا دون أن تكترث كثيرا لمضمونه أو لفاعليه.

استقبل الشعب التونسي، نخبة وجماهير، تغيير السابع من نوفمبر بكثير من التفاؤل ممزوج بشئ من الحيرة والتوجس.

ومع مرور الأيام سقطت الأقنعة وتبددت الأوهام واستيقظ الجميع على الحقيقة المرة عارية قاسية: رئاسة مؤبدة وديمقراطية مؤجلة وتنمية متعثرة أفقدت التونسيين كل أمل في تحسن أوضاعهم الأمر الذي جعل من الهجرة نحو أوروبا أغلى أمانيهم وقبلة شبابهم.

بعض الساسة والمثقفين التونسيين حذر مبكرا من انطلاء الحيلة ودعا للتعقل قبل إسناد الشرعية للنظام الجديد، لكن المشهد العام والتيار الغالب كان في وضع المراقب الذي ينظر و يتابع ، أو “المتفائل” الذي يأمل خيرا ويبارك ولم يكن كما كان ينبغي أن يكون : الفاعل الذي يوجه ويضغط ويؤثر في مجريات الأمور.

لم يكن ذلك الدور اختياريا بل هو في تقديرنا ناتج عن قصور في العقل السياسي انعكس بساطة في التحليل وضعفا في الأداء بما ضيع عن الوطن فرصة تاريخية ثمينة للانتقال الديمقراطي أو بالأحرى نحو وضع أفضل.
لقد كانت القوى الوطنية جميعها، في المعارضة كما في الحكم، في حالة من الضعف والانقسام منعتها من لعب أي دور إيجابي في دفع عجلة التغيير نحو وضع أقل سوء.

حيث كانت قوى المعارضة منكفئة على نفسها غارقة في أزماتها أو مواجهاتها مع السلطة، تشقها خلافات ايديولوجية وشخصية حادة. أما الحزب الحاكم وأحزاب الموالاة المشاركة معه في بنية الشرعية السياسية للنظام القديم فقد كانت في درجة من الهشاشة والتشتت، بمفعول صراعات الأجنحة داخلها، مما أفقدها المناعة الداخلية ويسر تهميشها عبر ابتلاع قطاع منها وتحييده أو خنقه وتبديده ليستتب “أمنه” بعدها ويتحول إلى “استراتيجيا” جيش لها النظام الجديد كل إمكانيات الدولة.

وقد مكنت هذه الأرضية الرخوة النظام الجديد من الانتقال، وبسرعة قياسية، إلى طور المبادرة/المناورة السياسية عبر طرح فكرة “الميثاق الوطني” كأداة لبناء شرعية وطنية مفقودة وضمانة لسلم اجتماعية مهددة ووسيلة لاحداث فرز جديد في الساحة يكرس لهيمنة السلطة القديمة المتجددة ويضمن ولاء الأغلبية.
بكل تأكيد، لم تكن الأمور لتؤول إلى ما هي عليه اليوم، من استبداد وفساد، لو كانت القوى الوطنية المعارضة لحكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة مجتمعة حول “عقد سياسي” يوحد مطالبها تجاه أي نظام قادم بغض النظر عن هوية القائمين عليه وحساباتهم ونواياهم.
واليوم، بعد أكثر من عشريتين، وإن كنا نعتقد أن الأوضاع في ظل أي نظام آخر يمكن أن تكون أفضل حالا مما هي عليه الآن في ظل النظام الحالي إلا أننا لا نراها ستختلف عنه جذريا، في قضايا التنمية والديمقراطية خصوصا، إذا ما حافظنا على ذات الشروط الموضوعية أي ضعف المعارضة وتشتتها من جهة، فضلا عن الدور المركزي للخارج وهيمنته من جهة أخرى.
إن نفس الشروط في نفس الظروف تفضي غالبا إلى نفس النتائج رغم أن علم الاجتماع السياسي يؤكد فرادة الظواهر الاجتماعية والسياسية .

تغيير جديد يطرق الأبواب:

ما أشبه حال تونس اليوم بحالها في ربيع 1987. طبقة رقيقة من الهدوء الحذر والاستقرار الخادع و”الفرح” المصطنع، الذي يروج له وينفخ فيه خطاب سياسي خشبي واعلام محلي مدجن وقوى ضغط خارجية متواطئة، تغطي بوادر بركان متأجج أبرز تمظهراته:

ـ شباب يائس وحانق، قتل فيه الفقر والبطالة روح الانتماء للمجموعة الوطنية، ودفعته سياسات الاقصاء والتهميش نحو الأقصى انطواء على الذات أوتطرفا في كل الاتجاهات أو هروبا من الواقع وتعلقا بغاية المنى: الهجرة الى حيث تزدهر صناعة الحياة (ولو كان الثمن هو الحياة نفسها!) ؛

ـ وأزمة اقتصادية واجتماعية مستفحلة يستعر أوارها مع غلاء المعيشة وانهيار القدرة الشرائية لدى أغلب الفئات الشعبية؛

ـ وساحة سياسية آسنة، يتربع على رأسها رئيس متهالك يحظى بشرعية متآكلة يرممها جهاز أمني اخطبوطي وحزب مليوني غثائي. وتحاصر هذه الساحة قوى الضغط والمصلحة التي استولت على مركز القرار في الكثير من المجالات وافتكت من الدولة الكثير من الامتيازات. كل هذا في ظل تشتت غير مسبوق للمعارضة وضعف وانتظار يبعث على الاحباط والتشاؤم.
ولعل الفارق الرئيس بين الوضعين هو حدة الأزمات الراهنة وتعقد الأوضاع الحالية أكثر في ظل أزمة عالمية متصاعدة. زد على ذلك أزمة الثقة التي تضاعفت بسبب وأد حلم التغيير وارتكاس وعود الاصلاح بعد عقدين من الخداع.
وهكذا تبدو شروط التغيير قائمة. تغيير استباقي من داخل الجهاز يحول دون انفلات الأوضاع بالكامل أو انفتاحها على المجهول. حيث لن ترضى قوى الضغط والمصلحة والعائلات الحاكمة واللوبيات المتنفذة وكل المنتفعين من الوضع الحالي فقدان مكانتهم وامتيازاتهم، كما لن تقبل القوى الدولية والاقليمية حدوث تغيير غير مرتب له يربك حساباتها ويهدد مصالحها.

ترتيب التغيير القادم بين القوى النافذة، المحلية منها والدولية، يبدو السيناريو الأرجح. ولكن ذلك لا يعني أن قوى المصلحة داخل البلاد (وربما خارجها) ستكون متفقة فيما بينها على الخليفه الوارث. ولذلك تبدو البلاد متجهة نحو حرب خلافة ضروس تؤكد بعض المؤشرات اشتعالها منذ مدة، من مثل اضطراب السياسة الأمنية، تطبيعا أوتصعيدا، في التعاطي مع بعض الملفات الساخنة، أو الاشارات المتناقضة في مسائل التدين وعودة المغتربين والانفتاح الاعلامي.

وبقطع النظر عن هوية “صانع التغيير” القادم، وعن موعد استلامه للحكم، وعن طريقة ذلك الاستلام، فان ما يعنينا من كل ذلك وقوف البلاد اليوم على مشارف مفترق طرق ينتهي معه شوط لرحلة شعب معذب مؤذنا بانطلاق شوط جديد.

وحتى لا تكون الرحلة القادمة هي الأخرى رحلة عذاب فإن الحكمة والصواب تقتضي إعداد العدة وتحسس السبل الآمنة أن نضل الطريق ونتيه في فلاة الاستبداد ربع قرن آخر أو ثلثه (معدل البقاء في السلطة على مستوى الوطن العربي).

يحتاج الطريق الوعر إلى دليل، ودليل الشعوب هي نخبها التي تجدد لها الأمل وتشحن حركتها بالمعنى وتضيء لها دروب الخلاص.

عجز المعارضة عن التغيير:

على الرغم من أننا نقدس سلطان الارادة ونؤمن بقدرة “الفئة القليلة المؤمنة بضرورة التغيير” على جعله حقيقة كما هو جوهر السياسة أصلا فيما هي “فن تحويل اللازم إلى ممكن”، فاننا نقر آسفين بأن المعارضة التونسية عاجزة، بوضعها الحالي، عن صناعة الأمل واحداث التغيير المنشود. عجز اشتركت في احلاله عوامل عديدة أهمها:

ـ انقطاع معارضتنا عن شعبها كعمق طبيعي واستراتيجي، بسبب سياسات السلطة المبنية على المحاصرة وعلى كسر الحلقات الوسيطة، تعبئة وتأطيرا، بين النخب وعامة الشعب وبمفعول عوامل الخوف والتشتت وضعف الوازع الوطني للمواطن / الرعية التي تتحمل السياسة الثقافية للاستبداد فيها النصيب الأوفر من المسؤولية.

ـ ضعف المعارضة وعدم قدرتها على التجدد أو إبداع استراتيجيات نضالية تتجاوز بناها الحزبية الضيقة وإيديولوجياتها التقليدية المغلقة والتي أضحت عاجزة حتى عن تأطير أعضائها وإقناعهم.

ـ انقسامها وتشتتها وعجزها عن تقديم بديل أو حتى خطاب موحد يقنع القوى التي تخشى التغيير الحقيقي أن استمرار الوضع الحالي أو استنساخه لن يقودا لا للاستقرار ولا لحفظ المصالح.

وفي هذا الصدد، علينا أن نعترف بكون عجز المعارضة عن صناعة التغيير هو الذي أفقد الأمل لدى كثير من الشخصيات الوطنية ودفعها إلى بؤرة العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام في تناقض مؤسف ومؤلم مع قناعاتهم الصميمية وضمائرهم وواجبهم الوطني والأخلاقي.

كما أن السبب ذاته هو الذي ثبط ولا يزال كثيرا من الإطارات النزيهة للدولة ونخبة عريضة من أعضاء الحزب الحاكم عن القطع مع منظومة الاستبداد وحال دون انتقالهم إلى ضفة التغيير الديمقراطي الحقيقي والمسؤول.
إدراكنا لهذه الحقيقة المؤلمة يفرض علينا نقد استراتيجياتنا ومراجعة حساباتنا ورسم أهدافنا بحسب ما يتوفر لدينا من إمكانيات متواضعة.

المعارضة التونسية .. الدور الممكن والمسؤولية الوطنية:

إن العجز عن صناعة التغيير لا يرفع مسؤولية البدء في توفير شروطه عبر نحت قواعده وضبط مساراته ضمن إطار المصلحة الوطنية العليا. ذلك هو الدور التاريخي الذي تأثم معارضتنا أمام الأجيال القادمة إن هي لم تضطلع به كاملا وبشكل فوري.

نعم، ليست المعارضة التونسية قادرة اليوم على صناعة التغيير، ولكنها قادرة قطعا على الالتقاء، معا ومع قطاعات عريضة من النخب التونسية، حول مشروع للتغيير يكون بمثابة “خارطة طريق لحكم وطني رشيد” تفرض على “أي قاطن جديد في قرطاج” احترام شروطها وتنفيذ جميع بنودها فور صدور البيان الأول لـ”عهده الجديد”.
مثل هذا المشروع ممكن نظريا وعمليا.
نظريا، يمكننا الجزم بأن إجماعا وطنيا قد تحقق منذ أمد في صفوف معارضتنا حول كبريات القضايا والإشكاليات. وإذا ما استثنينا بعض الحالات المصابة بداء الهوس الإيديولوجي، فإن الاختلاف الوحيد الذي يشقها هو من طبيعة مزاجية تتعلق بالطموحات الشخصية و النرجسيات أكثر منه تمايزا فكريا أو سياسيا.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن للاستبداد كل الفضل في توحيد الضحايا ممن جمعتهم السجون والمنافي والمظالم التي لم تكف يوما ولم تستثن حزبا أو نقابة أو قرية أو بيتا.

يشهد على هذه الوحدة الإنتاج الأدبي والسياسي للمقاومة المدنية كما سيل البيانات اليومية للجمعيات “التونسية” للدفاع عن حقوق الإنسان داخل البلاد وخارجها.
أما عمليا، فإن مبادرات الوفاق الديمقراطي وآكس-مرسيليا و 18 أكتوبر، على هناتها ومآلاتها، شكلت كلها إثباتا قويا لقدرة المعارضة التونسية، عندما تصمم، على تجاوز خلافاتها وتنسيق جهودها.

ودرء للبدايات الصفرية وربحا لوقت ثمين في وضع متحرك، يمكن للمعارضة التونسية أن تنطلق من تجاربها السابقة فتستخرج من مبادراتها الوحدوية معالم وبنود “الميثاق الوطني” الجديد أو ما أسميناه سابقا “خارطة الطريق لحكم وطني رشيد”.

ليس المطلوب من الأطراف الوطنية وحدة اندماجية أو جبهة سياسية، لأن ذلك الأمر غير واقعي وغير ممكن اليوم لأسباب ذاتية وموضوعية. ولكن المطلوب، والممكن، الالتقاء على مجموعة من المبادئ العامة والمطالب المشتركة وتدوينها وطرحها للساحة، والعمل على تحقيق أوسع اتفاق وطني ممكن حولها حتى تتحول الى مرجعية تستظل كل أطراف المجتمع المدني تحت ظلها، وتصبح بمثابة “كراس شروط” لن يجد أي نظام قادم بدا من احترامها لتحقيق الشرعية وضمان الاستقرار.

إن التنزيل العملي لهكذا مبادرة لا يحمل مختلف أطراف الطيف الوطني سوى حدود دنيا من التنسيق والاعداد المشترك (وحدود عليا من المسؤولية الوطنية وحساب المصلحة)، ويضمن لها مقابل ذلك الحفاظ على استقلالية القرار وحرية المبادرة.

ومن هذا المنظور، يصبح الانقسام الحاصل الآن بين مختلف الفرقاء حول الموقف من الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، سواء بالمشاركة الاحتجاجية أو المقاطعة المبدئية، مجرد حيثية في قرار وطني موحد لإدانة الاستبداد ومقاومته كما تصبح الإصطفافات الإيديولوجية والسياسية مجرد فواصل بسيطة في دفتر المسألة الوطنية.

المتأكد لدى كل التونسيين، بما في ذلك النظام الحاكم نفسه، هو كون التحديات التي تواجهها تونس أخطر بكثير من استحقاق انتخابات صورية باردة يعلم الجميع نتائجها حتى قبل أن يتقرر موعدها والمعينون لخوض غمارها.

كما أنه من المتأكد لدى المراقبين للشؤون التونسية، بما في ذلك أصدقاء النظام، هو أنه يستحيل حكم المستقبل بذات البنية والآليات السياسية التي حكمت الماضي ولا يزال أصحابها اليوم مصرّين على التجديف بها عكس تيار المجتمع والأمة والعولمة.

إن تغييرا وشيكا على رأس السلطة هو فرصة التونسيين الوطنية القادمة، فيما هي مرحلة بناء الشرعية، لفرض شروط الانتقال الديمقراطي.

فما من ريب عندنا في أن الرئيس القادم سيحتاج هو الآخر لبعض الوقت حتى يتمكن من تثبيت أركان حكمه الجديد وحمايته من كل الأخطار المحتملة. وفي انتظار ذلك فإنه سيكون مضطرا للمغازلة وتقديم التنازلات تنفيسا للاحتقان وتمايزا عن العهد القديم وتمهيدا لبناء شرعية مستقلة توفر الاستقرار اللازم لضمان تدفق الدعم الأجنبي له.

ذلك هو دوره الطبيعي وسيلعبه حتما بحرفية فائقة أما الدور الطبيعي للمعارضة فيجب أن يكون تحويل المغازلة إلى منازلة عبر الضغط الفعال من أجل التحويل الفوري للبيانات والوعود الخشبية إلى قوانين دستورية.
إن القدرة على المنازلة تتطلب تفعيلا لدور قوى المعارضة وتجديدا لهياكلها، كما تتطلب منها رفضا مبدئيا للانخراط في لعبة التحالف المصلحي أو الإيديولوجي مع هذا المرشح للخلافة أو ذاك، لأن الاصطفاف وراء المرشحين المفترضين ومنحهم صكوكا بيضاء أو شهادات براءة وحسن سيرة، يعد أكبر خدمة لآفات التسلط والاستفراد المتمكنة لدى كل من ترعرع في ظل النظام الاستبدادي.

إن منطق المسؤولية الوطنية يحفز التونسيين إلى مزيد من اليقظة والثقة والأمل تماما كما تدفعهم التجربة السياسية للعقدين الأخيرين نحو فائض من الحيطة والتوجس والحذر لأن الجحر الذي لدغوا منه ذات ليلة لا زال يأوي الكثير من الأفاعي الغادرة.

(*) كاتبان من تونس