صدر للدكتور منصف المرزوقي في دمشق كتاب بعنوان ” حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان ” صادرته السلطات السورية و يمكنكم الإطلاع عليه وتحميله

حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان

وتضامنا مع الرأي الحرّ ننشر مدخل الكتاب

المستقبل

لنتصوّر عرّافا وقف أمام جيلي سنة 1965 يقرأ لنا بخت الأمّة في كفّ التاريخ وأنه قال لنا ما يلي : أطلب منكم سماعي دون فقدان الصواب فأنا جدّ آسف يا شباب .. سيقع عكس ما ترجون وما تخططون له من وحدة وحرية واشتراكية وتحرير فلسطين ،ناهيكم عن التعامل مع الغرب ندّا لند وعودة الأمة بقوة لساحة العلم والتكنولوجيا والإبداع الفني والفكري .

ففي سنة 2006 أي بعد أربعين سنة من الآن ستكون حصيلة الآمال والأقوال والأفعال لجيلكم وللذي سبقه ما يلي :

– انقلاب الأنظمة التحررية القومية إلى أنظمة طائفية واحتلال داخلي ،أين قمع الاستعمار من قمعها

– هزيمة عسكرية قاصمة للظهر أمام إسرائيل، ثم اعتراف مصر – نعم مصر- بإسرائيل، ثم تسابق الأنظمة للاعتراف بالكيان الصهيوني.

– بلوغ الشعب الفلسطيني البطل ذروة المأساة وهو يحارب ظهره إلى الحائط ، لا نصير له من الشعوب أو من الأنظمة.

– تعمق التبعية و التخلف لا بالنسبة للغرب فحسب وإنما حتى بالنسبة لأمم آسيا التي ستحقق هي المشاريع التي تحلمون بها.

– الانتصار بالضربة القاضية للرجعية العربية على ما تسمونه القوى التقدمية والوطنية.

– تبذير كميات لا تصدق من ثروات الشعوب والأمة في فساد الأشخاص أو في تكديس سلاح مهمته تشغيل مصانع الأجنبي والعمولات للأصدقاء والاستعداد لمواجهة الثورة الشعبية وحتى لضرب فلسطين.

– اندلاع حروب أهلية مدمرة في السودان والجزائر ولبنان والعراق.

– عودة الاحتلال الغربي المباشر للأرض العربية واحتلال عاصمة الرشيد بعد انهيار العراق.

– تكثف موجات هروب العرب من بلدانهم يستجيرون بالغرب الذي تحاربون.

– بداية تفكّك الأقطار نفسها عبر تراجع الحس الوطني وظهور حركات مناهضة لكل ما هو عربي داخل أكثر من قطر في المشرق والمغرب.

– انهيار الشعور القومي وتزايد الفرقة والبغض بين العرب أنفسهم دولا وشعوبا.

– عودة الصراع بين السنة والشيعة.

– تحوّل مشعل المقاومة إلى قوى مرجعيتها الدين وانهيار كل التيارات الاشتراكية والقومية.

ما من شكّ أنه لو قيل لنا مثل هذا الكلام لهزئنا بقائله وسخرنا منه وأشبعناه شتما وتكذيبا ومن المؤكد ضربا بالأحذية.

ولأن كل هذا حدث فلا داعي للسخرية من عرافنا ، بل علينا بعد الاعتذار له ترجيه مواصلة قراءة

مستقبل الأمة…لنقل إلى سنة 2056.

ربما سنسمع شيئا من هذا القبيل:

– تهشم الجزائر والمغرب والعراق وسوريا ولبنان إلى دويلات طائفية وعرقية.

– احتلال مصر لليبيا لتجد مخرجا من الضغط السكاني الهائل وانطلاق المقاومة الليبية الباسلة ضد الاحتلال الفرعوني الغاشم.

– إعلان الخلافة الإسلامية في الحجاز المحرّر من مملكة نجد المتحدة.

– اختفاء السودان من الخارطة بعد أن أخذت مصر شماله وتشاد غربه والجنوب جنوبه.

– مطالبة الهند الحازمة باحترام حقوق الأغلبية الهندية المدنية والسياسية في الخليج والتهديد بالتدخل العسكري وإعلان الحرب على إيران التي بسطت حمايتها على دول الخليج منذ سنة 2020

– اندلاع الحرب الهندية الإيرانية وتدمير كل منطقة الخليج.

– احتلال دولة إسرائيل الكبرى لمنابع النفط في إمارة البصرة التي طلبت حمايتها من مطامع إمارة العمارة.

– انتصاب دكتاتوريات إسلامية في الدويلات الناجية وهاجسها الوحيد تغطية شعر النساء وفرض الصلاة في أوقاتها في المدارس والجامعات والإدارات . تصاعد التململ داخل الشعوب من الجور الإسلامي وبداية المقاومة وتزايد عدد معتنقي الكاثوليكية وبداية الخصومات بين المغاربين الكاثوليك

و البروتستانت.

– على الصعيد الخارجي انضمام ”جملكيات” تونس و قسنطينة ووهران و تطوان إلى الاتحاد الأوروبي بصفتها محميات ديمقراطية ( إضافة إلى إمارة بيت الدين المسيحية الديمقراطية وسلطنة جبل العلويين الديمقراطية ة ودولة أسوان الديمقراطية الفرعونية غير المعترف بها من الأسرة الدولية )

كل هذا بجانب” الجملكيات” الأمازيغية المعترف بها و التي تضم كنفدرالية تيزي وزّو وأقادير والحسيمة وبني ملال ولها وضع مراقب فقط .

– قرار مجلس الأمن بإلغاء اللغة العربية كلغة رسمية في الأمم المتحدة .

– ظهور الطاعون في موجات متتالية في كامل المنطقة العربية (سابقا) واستشراء المجاعات نظرا تفاقم الجفاف الناجم عن تغير المناخ…ناهيك عن وصول أزمة المياه الصالحة للشرب إلى قمم أصبحت تهدد وجود الملايين.

– ظهور دين جديد في مصر يدعو إلى عبادة الملك فاروق ويبشّر بعودته القريبة ليحرر الشعب من الإسلاميين ومن الإسلام.

إذا اعتبر أحدكم أن مثل هذه الأفكار علامات سوداوية في المزاج تستوجب الالتجاء إلى أدوية مقاومة الانهيار لعصبي الحاد، فما عليه إلا أن يتصور نفسه شابا في الستينات وأن يعيد قراءة ما ورد في بداية الصفحة، ليتأكد أن ما حدث لنا بالمقارنة مع ما كنا نأمل ونتوقع، ليس أغرب مما قد ينتظرنا في منعطفات طريق يبدو أننا فقدنا السيطرة عليه ، تماما كما يقع لقائد سيارة في منحدرات جبلية وقد أصبحت بلا فرامل.

من يستطيع أن يكابر اليوم والقول أننا نعرف إلى أين نحن ذاهبون وعبر أي طريق.فأنظمتنا التي تفتعل قيادة الباخرة السكرى هي أول من يعلم أنها لا تتحكّم إلا في الركاب المحشورين في العنابر

و مسار الباخرة متروك للقضاء والقدر وإرادة القوى العظمى.

أما مجتمعاتنا فهي بصدد الانفجار إلى الداخل عبر تصاعد كل مؤشرات التحلل والتفكك، من ارتفاع نسب الطلاق والانتحار والإدمان والبطالة والهجرة والجريمة والتدين واللجوء للعنف الداخلي والإرهاب الخارجي.كل هذا في ظل تفاقم الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية وتحت حكم دول

كأنك تسمع طقطقة عظامها وهي بصدد الانهيار والتفكك.

كأننا انخرطنا منذ نصف قرن في الاتجاه المعاكس للذي كان بوسعه أن يصل بنا إلى برّ النجاة وكأنه ما زال أمامنا الكثير لننزلق حتى نرتمي في أحضان الخواء …الفوضى المطلقة.

بالطبع لا بد من رفض الاستسلام لأمر كهذا ، لكن من أين الطريق ؟

لو فكرنا في الطريقة التي نتقدم بها عليه ، أمما وأشخاصا، لاكتشفنا أن نتحرك بفعل أربعة قوى أساسية . الأولى هي قوة الدفع الآتية من أعماق التاريخ. إنها جملة العوامل البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حددت لحد الآن مصير المجموعات والأفراد.القوة الثانية هي قوة الجذب الآتية من أعماق المستقبل وهي مكونة من جملة الأحلام والمشاريع المبهمة التي نحملها في أعماقنا. أما القوة الثالثة فهي الصدف الناجمة عن تصادم عوامل بالغة التعقيد والتشابك . وفي الأخير تشكل أرادتنا وقدراتنا الواعية القوة الرابعة وهي قوة لا يجب أن نستهين بها حتى ولو بدت لنا متواضعة الفعل أمام القوى الثلاثة الأخرى.

لكن إشكالية هذه القوة الرابعة اعتمادها الكلي على المعلومات الدقيقة والتشخيص الصحيح والخيار الأنجع. هنا نصطدم بأننا، شعوبا وأفرادا، نتحرك داخل ضباب معرفي متواصل. فالمعلومات عن وضعنا الحقيقي إما ناقصة وإما مغلوطة وإما مشوشة بالهوس الأيدولوجي.

نحن لا نعي بما كنا نتخبط فيه إلا بعد الدروس القاسية للتجارب . آنذاك نتذكر كما كنا ساذجين في رؤانا ، لكن قل ما يخطر على بالنا أننا ربما نواصل أخطاء أخرى سيظهر حجمها بعد زمن ما.

لقائل أن يقول إذن من يضمن أن الوصفة المعقدة التي يوحي هذا الكتاب بوجودها ، حتى وإن يعرف صعوبة تطبيقها، ليست مرحلة جديدة من التخبط داخل الضباب.

الجواب بسيط : لا أحد.

كل ما يمكن التأكد منه والتأكيد عليه، أننا سنتقدم أكثر فأكثر على الطريق الصحيح وسنستطيع تدارك الأخطاء بسرعة أكبر، إذا وضعنا نصب أعيننا.. أنه علينا أن نكون حذرين من قناعاتنا أكثر من حذرنا من قناعات الآخرين … أن علينا ترك باب الحوار دوما مفتوحا لا محضورات ولا مقدسات ولا من يحزنون … أن علينا متابعة كل التجارب في العالم بعين يقظة وفكر نهم لنتعلم من التجارب الناجحة ونستولي عليها دون تردد … أن علينا قبول الطبيعة التجريبية والتخبرية empirique للمسار البشري.

بهذه الذهنية وبهذه الذهنية وحدها ، يمكننا أن نرفع نسبة التخيير في مسارنا على نسبة التسيير ، علما ،وأننا شعوبا وأفرادا، سنبقى إلى ابد الدهر مسيرين ومخيرين.

هذا الكتاب هو دعوة لتنبني هذه الذهنية ، أكثر مما هو دعوة لتبني المقولات والآراء التى وردت فيه.

إن مسئولية المثقف ليست في التأثير على العوامل الموضوعية مثل البيئة والاقتصاد فهي تتجاوز كل الأشخاص وكل الفاعلين , لكن مسئوليته محددة بضرورة المتابعة الدقيقة لتطور المعلومات والأفكار واكتشاف خطوط القوة فيها والتوعية بها حوله لأنه بقدر ما تكون الأفكار التي يعمل المجتمع عليها واضحة وصحيحة، بقدر ما يسهل اتخاذ المواقف السياسية الأقل ضررا.

المثقف الملتزم ( وهو نقيض الأكاديمي من جهة وخادم السلطان من جهة أخرى) جزء هام من الآليات التي يضعها المجتمع لرفع مستوى نجاعة أخذ القرارات . وبقدر ما يلتزم هذا المثقف بمطلق الاستقلالية والنزاهة بقدر ما ينجح في لعب دور في جوقة لها عديد من العازفين ، لكنهم للأسف في نشاز أغلب الوقت.

وسواء أضاف هذا الكتاب- وهو في جزءه الأساسي مقالات نشرتها متفرقة على موقعي وفي الصحف وأخرى لم يسبق نشرها – شيئا جديدا أم زاد في الضجيج المنكر للأصوات المتنافرة ، فما أتمناه هو أن يضع على الأقل بعض العلامات على طريق صعب وغامض وخطير ، حتى يمكن لرفاق المغامرة الجماعية تبين بعض معالمه داخل الضباب الكثيف و كلما تطلب الأمر تحويل العلامات من مكان لآخر وتحسينها والإضافة إليها ، لنخرج جميعا بأسرع ما يمكن من الحلقات المفرغة ونتجه أخيرا إلى الأمام …على الأقل ألا نتجه في الطريق المعاكس لنرمي أنفسنا في براثن أخشى ما نخشاه.

قد نكون دخلنا منعرجات طريق ليس له إلا وجهة واحدة ونحن ما زلنا نتوهم قدرة الفعل.

قد لا نكون دخلنا مثل هذا المنعرج ولا زال أمامنا متسع الوقت لإنقاذ مستقبل أبنائنا وأحفادنا.

وفي كلتي الحالتين، نحن مطالبون بالأمل والعمل، لأن هذه سنة الحياة، والأمر كان ولا يزال : اعملوا فسيرى اللّه…