حوار مع الصحفي عبد الله الزواري القيادي الإسلامي المنفي في وطنه

الجزء الثاني

حاوره فوزي الصدقاوي

Sadkaoui.fwz@gmail.com


5.هل لكم أن تحدثونا عن محنة التسعينات من القرن الماضي في السجون التونسية كما عايشتموها وعاشها السجناء السياسيون و كيف تقرؤون أبعادها ؟

كنتُ قد حوكمتُ في جميع محن الحركة الإسلامية وذلك في سنة 1981 وسنة 1987 ثم سنة 1991….ففي سنة 1981 ونحن في السجن كانت علاقتنا مع السجانين عادية كما كانت علاقتنا بعائلاتنا على ما يرام وأذكر أنه في أحد الأيام فتح علينا أحد الأعوان في السجن الباب وشرع يدفع إلينا بـ(ـالدلاع) فسألناه عن الأمر قال : أن فلاحاً من أبناء الجهة بعث إليكم بهذا الدلاع ، كانت بعض تلك(الدلاعات) قد كُـتب عليها «الإتجاه الإسلامي» والإدارة لم تر في هذا تصرفاً مخالفاً للقانون ولا مستنكراً من قبلها بل إستلمت الدلاع من المواطن وسلمته إلينا ، لكن في نظام زين العابدين بن علي تقطع عائلتك مائات الأميال دون أن تتمكن من أن تسلمك قفتك [1] للأن نظام السجن جعل للزيارة يوم وللقفة يوم ، ما الذي تغيير من سنة 1981 إلى سنة 1991 حتى يتغيير نظام السجن ؟ فالحركة وأبناؤها وقادتها الذين حوكموا سنة 1981 هم أنفسهم الذين حوكموا سنة 1991 مع أبنائها الجدد من التلاميذ و الطلبة والعمال والأساتذة بل إن السجانين أنفسهم لم يتغيروا، فالنظام وحده الذي تغيير، فـيوم كنت في سجن الناظور سنة 1981 بعث إليّ أحد تلاميذي وهو مقيم في مدينة بنزرت قفة كتب عليها( عبد الله الزواري /حركة الإتجاه الإسلامي) وقد سلمت إلي الإدارة القفة دون أن تجد أي داعِ للإعتراض أو اللإمتناع ، فقد وظفت السلطة السياسية ضدنا كل شيء فوظفت القضاء ليصدر ضدنا أقسى الأحكام الجائرة وسخّـرت إدارة السجون للتنكيل بنا والتشفي والإنتقام وسخّـرت مصالح الأمن لتصفية طرف سياسيّ معتبرٍ في الحياة السياسية بتونس . وتحولت مؤسسات الدولة في قبضة الحزب الحاكم تنـفذ سياساته . فما مورس ضدنا منذ بداية التسعينات وإلى يوم الناس هذا مخالف لكل الأعراف والقوانين وسأقدم لك بعض الأمثلة:

في سنة 1981 كانت عائلتي تقيم في جرجيس فيما كنت في سجن الناظور ولم يكن بإمكان عائلتي أن تزورني نظراً لبعد المسافة(+500 كلم) غير مرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أشهر فسألت مدير السجن إن كان يمكن لعائلتي أن تزورني أكثر من مرة في الأسبوع إن هي أمكنها الإقامة بتونس العاصمة لمدة أسبوع أو أسبوعين ، لم يعترض بل سمح لعائلتي بالزيارة ثلاثة مرات في الأسبوع ، وقد قدرت من جهتي كسجين أن هذا التصرف ينم عن إنسانية وحكمة . كان ذلك قبل أن توجد قوانين ترتيبية للسجون وقبل أن تصبح السجون تحت إشراف الإدارة العامة وقبل أن يصبح ضباط السجن متخرجون من الأكاديمية لتسير السجون ، كان مديري السجون حينها قد ترقوا من خيط إلى أربعة خيوط إلى نجمة بيضاء ثم نجمة صفراء .

في سنة 1995 وبعد ما يقرب عن تسعة أشهر لم تكن تعلم عائلتي عني أي شيء ولا بأي سجن أقيم، فآخر زيارة إلتقيتُ بهم فيها كانت في المهدية في سبتمبر 1994 وكانت من وسائل العقاب حرمان السجين من وصول رسائله إلى أهله ، فيسمح لنا بكتابتها ثم تحجز عندهم . ومن سجن المهدية تم نقلي إلى رجيم معتوق ثم إلى الهوارب والسيد فيصل الروماني الذي صار اليوم رائد كان من بين العقوبات التي هو بذاته أعلن عنها: أن رسائلي لن تصل إلى عائلتي. وبقيت أخباري مقطوعة عن العائلة من سبتمبر 1994 إلى أكتوبر 1995 وبعد أن ذهب فيصل الروماني و ذهب مدير عام السجون الحاجي غير مأسوف على عهده ليحل محله مدير عام جديد هو العقيد توفيق الدبابي ، تعدلت بعض الأشياء ، فعلمت عائلتي بمحل وجودي وقدِمت لزيارتي يوم 17 أكتوبر وقدمت والدتي المسنة متحاملة على نفسها لزيارتي بسجن الهوارب ، ومع أن القانون يسمح لذوي السجين عدم التقيد باليوم المخصص للزيارة السجناء إذا كانت الزيارة الأولى فقد منعوا عائلتي من زيارتي يومها بحجة أنه ليس يوماً مخصصاً للزيارة ولم يوقروا إمرأة مسنة جاءت تزور إبنها بعد أن فقدت أخباره لتسعة شهور ودعوها للعودة في اليوم الموالي . باتت والدتي ليلتها تلك ،وهي كما أذكر ليلة ماطرة و عاصفة، عند عتبة احدى الحوانيت في الهوارب وفي الصباح حملتْ نفسها إلى السجن لزيارتي ، كانت والدتي في جميع المحاكمات تشد أزري وتطمئنني، ولم تبكي يوما عند المقابلة ، بل إنها طلبت من مدير السجن يوم كنا في إحدى مقابلات السجن سنة 1981 أن تبقى مع السجناء لتغسل لنا ثيابنا وتطهو لنا الطعام وكنت أخرج للزيارة وقتها مع الشيخ راشد الغنوشي، فطمأنها مدير السجن: أنهم يعتنون بنا ويلبون طلباتنا وأنه ليس عليها أن تقلق على حالنا .

لكن في تلك الزيارة من صبيحة يوم 17 أكتوبر 1995 إستقبلتني والدتي عند الزيارة باكية وأبت أن تحدثني بشيء حتى لاتنغص عليَّ ، إلى أن روى لي شقيقي ما كان من أمر إدارة السجن من رفضها السماح لعائلتي بالزيارة وما كان من إصرار والدتي على المبيت في الطريق العام وعدم العودة قبل أن تراني وقد إغتضت لذلك وهالني أن أسمع ما تكبدته والدتي من متاعب . هذا بعض ما يمكن أن يُعْطي صورة عن وضع السجين وعائلته على عهد نظام بن علي، والواقع أن أشنع منه حصل للسجناء وعائلاتهم. بينما في عهد نظام بورقيبة كان مدير السجن بشير الشنّوفي الذي أمضينا تحت إدارته ثلاثة سنوات سجن قد قدِم إلينا ليودعنا باكياً معانقاً يوم مغادرتنا لسجن الناظور إلى سجن تونس . ومع أنه كان معروف بإدمانه على شرب الخمر إلا أنه كان يعامل السجناء معاملة إنسانية وقد قال لنا عند المغادرة « مرّ أمامي جميع أصناف سجناء الحق العام،لكنكم صنف آخر من السجناء ولا يمكنني أن أخطأ في حقكم ، فإن كان جماعة السياسة قد أخطؤوا في حقكم ، فليس علينا نحن كإدارة السجن إلا أن نقوم بوظائفنا كما يوجبها القانون» والغريب أن هذا الرجل لم يدرس بالجامعة ولا بأكاديمية ولا درّسوه حقوق الإنسان ولا لقّـنوه دروساً في إدارة السجون وكل ما في الأمر أن مشاعر إنسانية كانت حاضرة وقـِِيماً أخلاقية كانت تحكم سلوكه هو وأعوانه ، لم تمنعه من أن يفعل الشيء الصحيح . هذا على أيام بورقيبة أما الآن فإنه رغم كون القوانين تسمح بالزيارة الأولى في أي يوم وفي أي ساعة دون إلتزام بالضوابط القانونية ليتم بعدها تحديد يوم الزيارة المقرر لعائلة السجين وساعتها في المستقبل ، فقد جرى منع والدتي المسنة من زيارتي ، بعد أن تكبدت عناء السفر الطويل .

لقد كانت تعليمات النظام لإدارة السجون لأجل تنفيذها في حق السجناء السياسيين تتمثل أساساً في التشفي والإنتقام، فالنيابة العامة في محكمة بوشوشة العسكرية ممثلة في السيد محمد قزقز طالبت في مرافعتها : « …بإبادة هؤلاء…» رغم أن الإبادة جريمة محرمة دولياً ، والواقع أن المحاكم جميعها لم تصدر أحكاماً بالإبادة في حق الإسلاميين فإن ما مورس في حقهم أيام التحقيق في مخافر الأمن وأقبية الداخلية ولاحقاً في السجون التونسية كان إبادة وموتاً بطيئاً رأينا ولا نزال نرى نتائجه القاتلة .

أذكر مثالاً على ذلك، أحد إخواننا من صفاقس( حبيب الفقيه أو حبيب العيادي) حُـكم عليه بثلاثة سنوات سجن و زجّ به في غرفة المدخنين ، فأصيب ببحة في صوته ولم يُسمح له بالمعالجة إلا بعد محاولات مضنية ، وبعد الفحوص قدرالطبيب أنه مصاب ببداية سرطان في الحنجرة ، وأوصى في تقريره أن يُنقل المريض إلى غرفة أخرى ليس بها مدخنين وكان أمله أن يكون في حصة الفحص القادمة قد تحسنت حالته بصورة ملحوظة ، فما كان من إدارة السجن إلا أن فعلت عكس ما أمر به الطبيب فاُخذ إلى غرفة مدخنين تزيد أعدادهم عن مائتي سجين، عاد السجين إلى الفحص ثانية لاحظ الطبيب أن حالته إزدادت سوءاً وفَهم أنه نُـقـل إلى غرفة فيها أعداد أكبر من المدخنين .

فأعاد الطبيب كتابة التقرير مشدِداً على ضرورة إبقاء السجين المريض بعيداً عن المدخنين، لكنه في الحصة التالية لم يتبين أن شيئاً قد تغيير، سأل الطبيب عن مدة الحكم فقال له السجين هي : ثلاث سنوات ، فأسر له الطبيب قائلاً : واضح أنه لارغبة لهم في معالجتك ولم يبق أمامك سوى أن تقضي السنتين المتبقيتين من الحكم فالمرض في بدايته ولن يتطور خلال السنتين القادمتين تطوّراً خطيراً ، إليك عنواني.. تعالى إليّ لأعالجك حين تغادر السجن.

ولقد تطورت حالة السجين فبلغت به حداً يعجز فيها عن إسماع صوته ، فكان حين تزوره عائلته في السجن يسمعها لكنه يعجز على إبلاغها حاجته لأن بَحَة شديدة ذهبت بصوته ولايكاد أهله يوم الزيارة ، يسمعونه وسط تعالي أصوات باقي السجناء والعائلات . وحين طلب في إحدى المرات أن تمنحه إدارة السجن بضع دقائق حين تهدأ الأجواء بعد الزيارة ويكون الزوّار قد غادروا ، فتصبح العائلة قادرة على سماع صوته الخافت ،أو يسمحون له بكتابة طلباته على ورق ، فقامت الإدارة بمعاقبته بنقله إلى سجن آخر حيث قضّى بقية محكوميته ثم خرج ليعالج نفسه . هذا مثال واحد والأمثلة كثيرة عن حالات إصابة السجناء بأنواع من السرطانات ، فإن نحن لم نعتبر الظروف السجنية سبباً رئيسياً في نشأة هذه الأمراض فلا يمكن تبرئة إدارة السجن من الإهمال الصحي الذي سمح لعدد من الأمراض أن تستفحل في الجسم وتفتك به .

لو لم يكن هناك سوء نية لماذا ينقل السجين المريض بالرغم من توصيات الطبيب ، من غرفة بها مائة سجين مدخن إلى غرفة بها مائتي سجين مدخن ، ألم يكن من الواجب إتباع توصيات الطبيب ؟ لماذا يوضع في العزلة السيد حمادي الجبالي و السيد صادق شورو والسيد علي العريض؟ إن لم يكن نكالة بهم ،لماذا لا يوضع في العزلة أيضاً سجين مريض ليس مطلوب غير حمايته من تلوث غرف المدخنين إن لم يكن رغبة مضمرة من الإدارة في إستفحال مرضه . لذلك نقول أن الإنتقام والتشفي سياسة متبعة ومبرمجة و لولم تكن سياسة متبعة لكنا شاهدنا مدير سجن متسامح وآخر متشفي ، ومدير سجن يمنع من الزيارة ومدير سجن يمكّن من الزيارة ومدير سجن يهمل الناحية الصحية للسجناء ومدير سجن يُعنى بصحة السجناء . لكن مايجري في كل السجون كان مبرمجاً مسطراً ومخططاً ومدروساً وليست أبداً عملية عفوية، ولم تكن هذه الممارسات مسلطة فقط على السجناء بل أيضاً على عائلاتهم.

فحين نسمع أن امرأة مسنة تزيد عن الستين من عمرها تنتقل من تونس إلى ولاية المدنين لتبيت ليلتها في فندق لتتمكن من زيارة إبنها الشاذلي النقاش في سجن الحربوب وحين يتم إكراه نساء على تطليق رجالهن ، فزوجة السجين معتوق العير حين تستقل سيارة أجرة يستوقفها رجال الشرطة في جبنيانة ويمنعونها من زيارة زوجها ويجبرونها على إعلامهم قبل أن تغادر محل سكناها قاصدة زيارة زوجها ثم يطلب منها إخبارهم بعد الزيارة بما تحدث به إليها وداوموا على ذلك مضيقين عليها غدوها ورواحها حتى قررت الطلاق فعدد من النساء لم يجدن من الطلاق حينها بد إلى أن يتغير الحال ، أما أبناء المساجين فقد تحملوا هم أيضاً متاعب ما أصاب أباؤهم فمعظم السجناء دخلوا السجن وأعمارهم بين 30 و 40 سنة وتركوا أبناءهم في أعمار تتراوح بين 3 سنوات إلى 7 سنوات في حاجة إلى عطف ورعاية الوالدين بصورة متوازنة ، فما يحتاجه الأطفال في ذلك السن من رعاية وعطف وتربية متوازنة لايمكن تعويضه لهم في سن 12 سنة أو بعد ذلك وسيظل ذلك النقص مسبب لخلل سيلازم شخصيته لاحقاً ، وتلك في حقيقة الأمر الجريمة الكبرى كما نتصورها . فبُعد المسافة بين محل سكنى العائلة و السجن الذي يقيم به رب العائلة( من شمال البلاد إلى جنوبها والعكس) وقلة ذات اليد التي تعاني منها عائلات السجناء ستجعل من الفرص القليلة التي يمكن أن تعوّض للطفل عند مقابلة أبيه ما يحتاجه من عطف وحنان سوف يكون من العسير توفيرها له وإن أمكن لتلك الزيارة أن تكون بعد بضع شهور طويلة فبإجهاد وإذلال لأجل لقاء لا يزيد في أحسن الأحوال عن ربع الساعة( في « سنوات السجن الذهبية » !!! أي بعد سنة 1998 أما قبل ذلك فلم تكن الزيارة تزيد عن الخمسة دقائق).

ومادمتُ قد ذكرت الزيارة فلا بأس أن أجري ثانية مقارنة بين ما كان من نظام السجن في العهد السابق( العهد البورقيبي)، فلم تكن الزيارة مقيدة بوقت وكان يمكن أن يسمح لك بالزيارة لما يزيد عن الساعة ونصف الساعة ، ولن تنتهي زيارتك إلا إذا كان هناك شخص آخر جاء بدوره لأداء زيارة لقريبه فيطلب منك حينها المغادرة لتفسح له المجال . ففي سنة 1981 جاءنا مدير السجن وطلب منا أن ننظم زياراتنا فيختار كل واحد منا يوماً للزيارة على النحو الذي نريد بصورة توفر لنا الراحة وتحقق للإدارة ما تطلبه من سير النظام. فكان الشيخ راشد الغنوشي ومحمد الصالح نني و عليّ نوير رحمه الله يلتقون بزائريهم يوم الإثنين ومحمد الصالح كركر وصالح بن عبد الله يوم الثلاثاء ، عبد الرؤوف بن رمضان ونجيب العياري يوم الأربعاء، يوم الخميس ..؟ يوم الجمعة جماعة بنزرت صالح الصفاقس وعلي الغالي ومحمد علي المغربي وحبيب ريحان ويوم السبت وليد البناني وبن عيسى الدمني وأنا ويوم الإثنين ، وحبيب ريحان كان يلتقي بزائريه يوم الإثنين فقط فطلب مقابلة مدير السجن شارحاً له أن عائلته كبيرة و جميعهم من بنزرت ولا يليق أن يتحدث إلى زوجته بحضور إخوته والأقارب من العائلة وسأله أن يمنحه يوماً إضافياً للزيارة تكون لزوجته وأبنائه فقط ، فوافق مدير السجن على الفور أن يجعل له يوم الجمعة يوماً إضافياً. فما الذي أنقص من هيبة إدارة السجن حين تحسن معاملة السجين ، لقد كانت الزيارة على تلك الأيام مباشرة في غرفة فسيحة ومدة الزيارة غير مقيدة بوقت فالزيارة تبدأ الساعة التاسعة ولاتنتهي الزيارة ما دام ليس هناك سجين أخرى جاءت العائلة لزيارته، وإن لم تكن هناك زيارة من قبل عائلة أخرى تستمر مقابلة العائلة الأولى مع إبنها السجين يجلسون على طاولة حيث تُبسَطُ المأكولات ويتبادل أفراد العائلة أطراف الحديث أثاء الأكل .

كانت الإدارة في هذا العهد تحرص على تدمير نفسية الطفل بإبعاد والده السجين عن منطقة سكناه وكانت الزيارة تتم عبر الحواجز وهوما يسيىء إلى الطفل وهو يلتقي بأبيه وقد ضرب بينهما الحواجز من كل جانب ويشاهد أباه محجوزاً كما لو أنه حيوان في قفص يحول دونهما وأي ملامسة أومعانقة . أما الرسائل التي تساهم في تخفيف الوطأة على الأبناء والزوجة بعض الشيء ، فإنها كانت تمنع ، فـفيصل الروماني كانت إدارته لاتسمح بأكثر من رسالة واحدة في الشهر ، لاتصل إلى عنوانها، ماذا يعني هذا غير إرادة التدمير المنهجي لكل علاقة يمكن أن تساعد العائلة عن النهوض والأطفال على التماسك.

على المستوى الاجتماعي كان يراد عزل أبناء الحركة عن عموم الناس، فحين يرى المواطن العادي أن حركة بحجم حركة النهضة في وقتها يتم ضربها بهذا العنف وإنتهاك حرمات أبنائها وعوائلها بمثل هذه الوحشية فإن الدرس الأول الذي سيلتقطه هذا المواطن وغيره من المواطنين هو أن دائرة العمل السياسي دائرة خطرة وأنه ليس في مقدور أحد من السياسيين أن يدرأ عن نفسه العقاب إن هو إقتحم منطقة السياسة ومارس حقه الدستوري في العمل السياسي . فالنظام فرض علينا بوسائله الأمنية والقمعية عزلة قاسية ثم ساهم فيها مع الأسف أطياف من المجتمع بدرجات متفاوتة فبعض إخواننا من بنزرت كانت كل زيارة له تتحول إلى« مَنْدَبَةٌ» إذ كان يعود إلينا باكياً لِما يصله كل مرة من أخبار التنكيل بزوجته وأبنائه ووالديه بينما طليعة المجتمع تستمر على صمتها غير مبالية في معظمها بمأساة الإسلاميين وعائلاتهم وأبنائهم فما ضَرَ المثقفين وطلائع المجتمع لو أنهم ساندوا الإسلاميين في محنتهم أو وقفوا في وجه النظام مستنكرين ما يقترفه في حقنا، ففي أوروبا يمكنك أن تجد جمعية ( زوار السجون أو ماشابه ذلك) لها موقع واب (web) تُعنى بسجناء أشربوا الإجرام يقوم أعضاء هذه الجمعية بزيارتهم والإطلاع على أخبارهم ومساعدتهم على بعض شؤونهم وتتكفل بعض العائلات الميسورة بأحد السجناء و وزيارتهم في المناسبات الدينية والأعياد وليس ذلك إلا حرصاً على أن لايخرج ذلك السجين أكثر إجراماً. وهكذا فلقد كانت السلطة جادة في إبادتنا ولأنه لن يكون بإمكانها أن تفعل ذلك بصورة فعلية ومباشرة فهي تمارس ذلك بطرق مختلفة بإهانة السجناء والدوس على كرامتهم والتسليط عليهم أقسى الأحكام و أطولها مدداً وحشرهم في السجون بعيداً عن عائلاتهم وفي أسوء الظروف الصحية مما جعل الموت البطيء يؤدي بالمساجين في أحاين كثيرة إلى وفاتهم .

6. عمِلت السلطة على خلق فراغ حول الحركة في الساحة السياسية ولكنها أيضاً في الساحة السجنية عمدت إلى عزل السجناء السياسيين من الإسلاميين عن باقي السجناء وسجناء الحق العام على وجه الخصوص ، كيف تعايشتم مع سياسة العزل هذه داخل السجون ؟

كان النظام حريصاً على أن يبقى إشعاع الإسلاميين داخل السجون بعيداً عن مساجين الحق العام، غير أن المصائب دائماً توحّـد الممتحنين، فحين تضع الإدارة إبن الجنوب في سجن ببنزرت مثلاً فإنها تعمل على أن تقطع صلته بعائلته أولاً وبالسجناء الحق العام من أبناء مدينته ثانياً ، وهكذا يُحرَم السجين السياسي من أن تتصل عائلته به كما يُحرم من أن يلتقي بأبناء منطقته من سجناء الحق العام الذين لامحالة سيتعاطفون معه بحكم الإشتراك في محنة السجن . ورغماً عن تلك الإجراءات ،لم يحقق النظام نجاحاً معتبراً في السجون مثلما تحقق خارجه .

وأروي حادثة من بين عشرات الحوادث المماثلة : ففي جويلية/أوت من سنة 1993 رَحّلتنا إدارة سجن المهدية ، محمد صالح قسومة وكريم الهاروني ومنوّر النصري وأنا إلى تونس وكان الأخ صادق شورو مع شكري بحرية في غرفة أخرى وتنكيلاً بهما قامت الإدارة بوضع ثلاثة من مساجين الحق العام ممن كانت تصنفهم الإدارة على أنهم الأكثر شراسة ووضاعة من بينهم سرحان العياري أو (ولد العيارية) من جهة الكرم ومنصف الدزيري وثالث نسيت إسمه وكان المقصود هو إزعاج الإخوة صادق شورو وشكري بحرية وجعل غرفة السجن عليهم جحيماً لكن بعد بضعة أيام سمعنا شكري ( هذا الذي عرف وقتها على أنه مجرم كبير) يخبر صديقاً له في غرفة أخرى أنه أصبح يؤدي فريضة الصلاة معلقاً بصوت عالي أنه « لا خوف إلا من الله» . وفي إحدى الأيام فتح الملازم الأول نبيل العيداني ( صار لاحقاً مديراً) غرفة السجن ليجد الجميع بمن فيهم سرحان ولد العيارية يؤدون صلاة المغرب في جماعة بإمامة الأخ صادق شورو . فقاموا بتفريقهم ووُضع الأخوة صادق شورو و شكري بحرية بمركز العقاب وكان الأخ صادق شورو قد أمسك يد الملازم الأول نبيل العيداني حين همّ هذا الأخير بصفع الأخ شورو ( وهي من كبرى الخطايا التي يقترفها سجين تلك الأيام سنة 1993) فهاجمه عدد من الأعوان وأوقعوه أرضاً وإنهالوا عليه ضرباً وشدوا وثاقه بالفلقة وتناوبوا على ضربه ، والواقع أن المرء كثيراً ما يجد نفسه عاجز على فعل ما يريد لكن في واقع الأمر من ذاك العجز ومن ذاك الضعف تُولَد القوة ، فقد حاول نبيل العيداني بعصاه الغليظة وبكل ما فيه من نذالة أن يجعل الأخ صادق شورو يتأوه فيُسْمَعَ أنينه، لكن دون جدوى فقد تماسك الأخ صادق ولم يُسْمَع له صوت رغم الضرب الشديد الذي ناله وطول الوقت الذي إستغرقه . وقد زاد مقامه عندي علواً لصموده ورباطة جأشه، فلم يكن أحد محصن في السجون التونسية سواء كانوا قيادات أو كانوا قواعد، حدث ذلك في أوجّ عهد أحمد الحاجي الذي قضت أرواح كثيرة على يديه ، الأخ الحبيب بن عمر قضى في 9 أفريل في إدارة الحاجي وسيأتي الوقت الذي يُفتح فيه هذا الملف لأن شهوداً حضروا وشهٍدوا على هذه الجرائم.

كانت بيت سبعة بسجن 9 أفريل المشهورة باسم بيت الصيودة (غرفة الأسود) يُزج بها دوماً عدد من الإسلاميين لبعض الوقت ليُنغَصَ عليهم سجنهم لأن بيت الصيودة هذه لايقيم فيها غير الشواذ جنسياً من سجناء الحق العام، وسيكون من الصعب على الإسلاميين، كما تقدر إدارة السجن، أن يحتملوا التعايش مع أمثال هؤلاء الشواذ. ولقد وضع بها عدد من الإخوة من مثل : محمد العكروت ومنصف بن سالم و عبد الحميد الجلاصي و لمين الزيدي و عبد اللطيف المكي وكنت أثناء المحاكمة 1992 قد سكنتُ في غرفة ستة أي الغرفة المجاورة لهم ( المسماة بإسم شهرتها بيت الصيودة) وقدعينني الإخوة الذين كنتُ معهم « كَبْرَاناً » [2] عليهم .أما كبران بيت سبعة فقد كانت الإدارة تصنفه ضمن الشواذ وكان هذا السجين يُسمى لطفي لكنه ينادى بين السجناء بـ« لطيفة ».. والإدارة ترى أن شذوذه يصلح أن يكون حاجزاً بيننا وبينه، وكان وقتها ممنوع علينا القلم والجريدة والورق والخبر و التلفاز وكان يمنع عنا كل شيء تقريباً ، وكانت الإدارة قد جعلت من هذا الشاذ صلة وصل بينها وبيننا إن جاءتنا الإدارة بالخبز أدخله هو إلى بيوتنا وإن جاءت بالماء أوبـ«الصُـبّة» جاء به إلى بيوتنا ،وهكذا الأمر مع كل الاعمال اليومية الخاصة بالسجناء .وقد كان لي يوم حديث معه ، فسألتُه عن حالته تلك التي إشتهر بها بين السجناء ، فأجابني بالقول : عمّ فلان إسمح لي.. الرجل ليس بـ …..

ثم قال : [..« الهادي بَلْهَا » كَبْرَان سقيفة بشواربه الضخمة.. هل تعدّه رجلاً..؟ فهو كل صباح..يُخرٍجُ من غرفته عشرة إلى خمسة عشر سجين يُسلِمهم للإدارة لمعاقبتهم هذا من أجل الصلاة وذاك لغيرها من الأسباب، فيتعرضون للضرب والصفع ويُعاقبُون بوضعهم في بيت الصيودة. بينما في غرفتي.. إسأل الدكتور الربيع إسأل عبد الحميد الجلاصي ، هل جاء عندي أحد منهم وأزعجناه بكلمة أو أخرجناه «للحاكم» [3] قصد معاقبته ، هل جاء إلينا أحد ولم نعطه فرشاً وثياباً وغطاءا ولم نقتسم معه الغلة ، فهل تحسب« بَلْهَا » ذاك رجلاً ، أما عن حالتي تلك فأنا مريض تماماً مثلما يكون الرجل مريضاً بالقلب وبغيره فأنا مريض بذلك الشيء..] وقد طلبتُ منه بعد ذلك أن يأتيني بالقلم والورق وخلافه فلم يتردد وجاءنا بجميع طلباتنا فمثل هذه الأعمال لم يقم بها أخرون ينظر إليهم على أنهم رجال . ولقد تأكدتُ من صحة ما أسره إليَّ هذا السجين، حين التقيت في سنة 1999 بالأخ فتحي الحزقي من سليمان وسألته، فأجابني :[ سنة 1996 على إثر الإضراب العام شارك فيها سجناء كل أجنحة سجن تونس ، ونظراً إلى أننا كنا كثرٌ ، فقد تم زج بأربعة منا في تلك الغرفة(غرفة الصيودة) ، نقلنا إلى هناك بدون غطاء ، فجاؤوا إلينا بفراشهم وأغطيتهم وأعطونا من صابونهم المعطر ، ودَعَـونا للمشاركة في أطعمتهم ..]قال والكلام لـفتحي الحزقي : […لم نر منهم إلا خيراً ..قال: في ذلك الوقت لم يكن يُسمَحُ للإسلاميين أن يؤدوا صلاة الجماعة إلا أن صلاة الجماعة كانت تقام في« غرفة الصيودة» فحين تحضر الصلاة ينادي الكبران في سجناء الحق العام :« هيَّا يا بنات…..[ هكذا] أفسحوا للرجال لكي يُصَلُوا..» فيتوقف جميع سجناء الحق العام عن الهرج والمرج ليفسحوا للسجناء من الإسلاميين ليؤدوا صلاتهم .

فمثل هذه المواقف لم يكن يَجْرُأ على القيام بها من كانت الرجولة تبدو ظاهرة عليهم .

أيضا في حبس تونس هناك 9 سيلونات على اليمين ومثلها على اليسار، بصورة متقابلة ، وكان هذا السجين يفتح في غفلة من الجميع شباك السيلون ويفتح ذاك الذي في قبالته ليفسح للسجناء فرصة الحديث إلى بعضهم البعض ويأخذ ورقة من هناك إلى هنا .ولم يكن ذلك هيّن في تلك الفترة أن يجرأ أحد فيقوم بتلك الأعمال ، إذ لو كُشف أمره وقتها لمسه من الإدارة سوء .

كان من أهداف الإدارة إذًا أن تضعنا في عُـزلة عن الحق العام لكن لم يكن نجاحها إلا نسبياً، دون أن يعني ذلك أنه لم يكن هناك «أوباش» [4] من الحق العام من كانوا يُبلِغون الإدارة بالصغيرة والكبيرة طمعاً في العفو لاسيما بعد أن خَـرجَتْ إشاعات في سنة 1992 مفادها أن فُلان محكوم بـأربعين سنة صدر في حقه عفو بعد أن أبلغ معلومات عن حركة النهضة ، فذاك هو مجتمع السجن في أيامنا ، والواقع أن العلاقة مع سجناء الحق العام كان يمكن أن تكون أفضل بكثير لو تُركَتْ هذه العلاقة مفتوحة وحرة .

جرت العادة أن يُنقل إلى غرفة الصغار من سجناء الحق العام من كان شاذاً أومن يُرَادَ معاقبته منا ممن جاوز عمره الأربعين أوالخمسين ،ولقد اُخِذتُ في سنة 1995 في سجن الهوارب إلى غرفة الصغار، التي كان بها يومها 170 سجين ، وقد سبق أن سكن فيها الأخ حبيب لبيض والأخ حمادي الجبالي..ورغم أن الزج بنا في تلك الغرفة كان مقصوداً للتضيق علينا والتنغيص على إقامتنا كما أكد لي« الشاف سنترا » [5] عبد اللطيف الشرمِيطي،إلا أن محاولات عزلنا باءت بالفشل ذلك أن صغار السجناء رغماً عن إجرامهم فقد كانوا أكثر رجولة من كبار السجناء.

ففي 1995كنت أسكن غرفة الصغار مع محمد الكيلاني من (POCT) وقيس بن سعيد وهو من الإسلاميين كان مسؤول عن ريانة( تونس الشمالية) ، أعتقد أن محمد الكيلاني حينها كان قد نُـقل من الغرفة..وكان قيس بن سعيد قد صنع كعكة حلويات كبيرة من قطع البيسكوت وقطعناها إلى خمسين قطعة ووزعناها على الجميع وكانت الإجراءات وقتها مشددة ، إذ كان يُمنع علينا الأكل مع الحق العام ، فانتشر الخبر في صباح يوم غـد أن الإسلاميين صَنَعُوا كعكة حـلويات ووزعوها بين السجناء . فجاء السجان عبد الرزاق بحرون ونحن في وقت الفسحة (لارية) يسأل قيس بن سعيد عن تاريخ ميلاده…محاولاً التقاط قرينة تثبتُ أن الجماعة صنعوا فعلاً كعكة بمناسبة عيد ميلاد قيس..أجاب قيس أن مولده كان في كذا من شهر فيفري. فاستغرب الرجل ، وسألني بعد ذلك وأنت متى كان مولدك قلت : كذا من شهر جوان سنة كذا.. تعجب الرجل لأن تاريخ المولدين لم يكن يوافق تاريخ ليلة أمس.. فقال : إذا كعكة الحلويات التي صنعتموها البارحة بأي مناسبة كانت إن لم تكن عيد ميلاد أحدكما .فقال قيس : لم نصنع شيئاً ..

فجاء بأحد السجناء الصغار يسألهم : هل أكلت من الكعكة البارحة ؟ فيجيب : نعم أكلتُ ، فيسأله عبد الرزاق بحرون : ومن أين جاءتك ؟ والسجين يَعلم لو قال أن عم عبد الله الزواري هو من أعطاني من الكعكة ،وكنت قد وزعت فعلاً على أغلبهم شيئا منها ، فسيُعاقب هو ويتسبب في معاقبتي أنا وقيس . فيجيب بالقول: إنه أخذ قطعة من فلان وهو سجين حق عام، فيدعوا بحرون فلان هذا فيُشير عليه بعِلاّن سجين حق عام آخر وهكذا إستنطق عدداً يزيد عن عشرين دون أن يعترف أحد أنه تسلم قطعة الكعكة مني أو من قيس ، فراح يسُبُهم جميعاً ثم نَهرهم وانصرف. فالصغار هؤلاء فيهم رجولة ليست في كثير من الكبار.

وأذكر أني بقيتُ وحدي في غرفة الصغار بعد أن خرَج منها محمد الكيلاني وقيس بن سعيد ، وكنا نشترك ثلاثتنا في شراء صحيفة الشروق ،رغم أنهم يقـُصون معظمها ولا يبقون منها إلا المساحات الخاصة بالأبراج والرياضة والفن ، فأخبرت رفاقي بالغرفة معز العياري ( من حي الزهور) و….البجاوي ( من جهة وادى الليل) ، أنني لا أتصرف إلا في خمسة عشر ديناراً شهرياً من الحوالة ولا يحق لي أكثر من ذلك وهو مبلغ لايمكّنُني إلا من شراء بعض الحاجيات الضرورية مثل الحليب والزيت. وإن أنا اشتريتُ جريدة فهذا سيكلفني عشر دينارات بالشهر وهو ما يذهب بثلثي المبلغ المسموح لي التصرف فيه من الحوالة . لم يرق هذا الخبر لرفاقي بالغرفة لأنهم كانوا يطّلِعون بدورهم على الصحف ويتابعون من خلالها أخبار الرياضة وبعضهم يقص صور الفنانات ويعلقها عند سريره. فتحدث رفيقيْيَ إلى بقية السجناء في الغرفة وأتفقوا على أن يستمر شراء الجرائد بشرط أن يسهم كل من يطلع على الصحيفة بـوضع« سيجارة» في صندوق مقوى كان يُستعمل للسكر . فامتلأ الصندوق بالسجائر في يومين أو ثلاثة أيام .

كان محمد الكيلاني الوحيد الذي يزوره أقرباءه ، يوم للقفة والزيارة معاً يوم الإربعاء ، ولم يكن قيس يُزار بالمرة أما أنا فزياراتي متباعدة بحيث المأكولات« المدنية» [6] لا تأتيني أما الحق العام فالزيارة عندهم يومية في الهوارب ،فكنتُ كلما دخلت الغرفة بعد الظهر أجد تحت سريري بين سبعة إلى عشرة صحون بشتى أنواع المأكولات التي جاءت بها عائلات سجناء الحق العام إلى أبنائهم ، وكان أحد السجناء من القيروان إعتادت عائلته أن تزوره في أخر النهار ، فإذا قدّم لي بعضاً مما في قفته من مأكولات إعتذرتُ له لوفرة ما لدي من مأكولات متنوعة ، وهكذا في كل زيارة ، فوقف مرة يسألني ، هل مأكولاتك هذه أطيب من مأكولاتي ،وأَقـْسم أن يشتكي إلى والدته ما بدا مني من رفض دائم لطبيخها ، وأصبح بعد ذلك يعلمني قبل وقت أنه عليّ أن أقبل قبل غيره بعضاً من مأكولاته .

هذه حالة سجناء حق العام من صغار السن أما الكبار من السجناء ، وقد عاينتُ سلوكهم حين سكنتُ معهم في برج الرومي بغرفة العَمَلة ، فالكبار يخافون إن تعاملوا معي أن يُبَلغَ عنهم فيحرمون من الإمتيازات الخاصة التي يتمتعون بها. لم يكن لدي إختلاط بسجناء الحق العام إذ قضيتُ كامل فترة السجن في العزلة إلا سنة 1995 مع مجيىء توفيق الدبابي [7] وضعتُ في غرفة الصغار ( وهي بدورها ضرب من العزلة) أما قبلها وبعدها فقد قضيتها في العزلة أيضاً، أما المدة فقد قضيتها مع « الإنتماء » .

وفي بيت الصغار كنا سنة 1995 نتحدث عن الصلاة وكان معنا سجين من بنزرت هو : نجيب الغربي فصار يؤدي الصلاة هو وأخرين،وكانوا يؤدون صلاتهم وهم في فراشهم و في وضع النائم، خوفاً من أن يَنَالَهُم أذى من الإدارة إن تَفَطنُت أنهم صاروا يؤدون الصلاة .

1 | 2 | 3

…….يتبع

[1] القفة وهي في اللهجة تونسية سلة للتبضّع وهي عند الفرنسيين كما يسميها أصحابها (couffin)،يحمّل فيها التونسيون أغراضهم عند التسوق وإعتادت عائلات السجناء تحميل حاجيات أبنائهم فيها ، ويسمى يوم تسليم حاجيات السجناء بيوم القُـفّة تمييزاً له عن يوم الزيارة.

[2] « كَـبْرَان »caporale هو ناظر غرفة السجن ، تعينه ادارة السجن لتسيير شؤون الغرفة بمعية كبران كُـرفي ( مساعد ناظر غرفة) ، ويتعدد أنواع الكبرانات بحسب عدد الوظائف في السجن : كبران سنترا وهو ناظرالسجن ورئيس جميع الكبرانات و كبران اللارية أي ناظر الفسحة وكبران الدوش أي ناظر الحمام و كبران سقيفة أي ناظر الجناح وكبران فرملي أي ناظر المصحة وكبران كوجينة أي ناظر المطبخ.. .

[3] «للحاكم» في التعبير التونسي يوصف بالحاكم رئيس الدولة والقاضي في المحكمة و أعوان التنفيذ في مخافر الشرطة والــحراس في السجون.

[4] «أوباش» والوَبْـشُ في العربية هو الرقط من الجرب يتفشّى في جلد البعير والأوباش هم الأخلاط والسفِلة وهم في العامية التونسية أحط الناس قيمة وقدراً و مقاماً .

[5] الشاف سنترا : وهو المسؤول عن جميع الأجنحة في السجن .

[6] بالفرنسية (civile) ليمييز بين ما له علاقة واسعة وحرة بالمواطنين وعموم الناس وبين ما يعود إلى السلطة أي (بيليك=beylicat) مجال نفوذ الباي أو الدولة وهي غير معنى الذي تحمله عبارة public والتي تفيد في أصولها اللاتينية شعب ،وفي السجن يمييز السجين الأكلات التي تقدم إليه من قبل إدارة السجن ويسميها (صُبة) وبين الأكلات الذي تأتي بها عائلات السجناء ويسميها أكل civil

[7] توفيق الدبابي: توفيق الدبابي هو عقيد يرجح البعض أنه في سلك الجيش و يقول البعض أنه في سلك الشرطة ،جاء بعد إقالة أحمد الحاجي على خلفية وفاة سجين حق عام في سجن صفاقس تحت إدارة عادل عبدالحميد يومئذ وقد تم تكليف السيد زكريا بن مصطفى على رأس لجنة للتحقيق في الموضوع و العقيد توفيق الدبابي الذي تولى مسؤولية الإدارة العامة للسجون والإصلاح سنة 1995 في تلك الظروف قضى قرابة العامين تحقق خلالها للمساجين بعض الحقوق