محورية “التطبيع” في الاستراتيجيا الاسرائيلية و لاعقلانية خطاب “السلام” الراهن

بقلم الطاهر الأسود

باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

مرت الآن بضعة أسابيع منذ إثارة مشاركة دار “الصباح” التونسية في مسابقة تم وسمها من قبل عدد من الشخصيات و الهيئات التونسية بأنها “تطبيعية”. و من بين كل الأشياء التي يمكن التعليق عليها كان أبرز ما لفت إنتباهي هو خطاب الذين قاموا بالدفاع عن هذه المشاركة. كانت تلك مناسبة لتفحص خطاب توارى في السنوات الأخيرة في الوقت الذي كان رائجا بعض الشيئ غداة “مؤتمر مدريد” و “اتفاقيات أوسلو” بداية تسعينات القرن الفائت. و بالرغم أنه خطاب “أقلي” و “مبعثر” مثلما أشار الى ذلك، عن حق، بعض أصحابه إلا أنه موجود و فاعل. و يقدم أصحاب هذه الرؤية موقفهم على أنه يخدم الصراع القائم في المنطقة في اتجاه حله و خدمة المتضررين منه. يتم الاعلان عن ذلك بنرجسية غير مبررة تتجاوز الصراع العربي الاسرائيلي لتقدم لنا تصور أصحاب هذه الرؤية لذاتهم بشكل خلاصي يمسح مجمل القضايا القائمة بما في ذلك “التنمية” و “الاصلاح” و “مقاومة الفساد” و طبعا مواجهة “الظلامية و الخرافة”. حيث يرى هؤلاء أنهم لا يقدمون مجرد موقف مختلف و لكن موقف متناقض من حيث المنهج و الرؤية لما هو سائد.

و في الحقيقة ربما كان من الصائب، مثلما فعل البعض، وصف الخطاب التنديدي بالمشاركة بأنه “خشبي”. ربما يستعمل المنددون بـ”مشاركة الصباح” الأسلوب غير المناسب في مقاومة “التطبيع”. و ربما كان من الأفضل تعميق النقاش و اللجوء الى خطاب هادئ واثق من قضيته عوض الصراخ. ربما كان كل ذلك صحيحا. لكن تلك ملاحظات خاصة بالأسلوب. القضية تبقى في تقييم هذه المشاركة: هل هي في خدمة القضية الفلسطينية و حل جدي و واقعي للصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام أم لا؟ و مثلما سأحاجج لاحقا، يقف هؤلاء المنددون موقفا تاريخيا صحيحا في حين يقف المدافعون عن “مشاركة الصباح” موقفا معاديا للحقوق الإنسانية الأساسية و للحقوق القومية و الشرعية لشعوبهم و أمتهم و من ثمة موقفا لا يقدم حلا واقعيا و ممكنا للصراع العربي الإسرائيلي. لأجل ذلك يستحق خطاب الأخيرين وقفة تأملية خاصة.

سأطرح هنا المسائل التالية:

أولا، كيف يصور المدافعون عن “مشاركة الصباح” الجدال الراهن؟

ثانيا، كيف يقومون بعرض ظروف “مشاركة الصباح” في المسابقة المعنية و ماهي طبيعة هذه المشاركة أصلا؟

ثالثا، هل يعتبرون “مشاركة الصباح” مبادرة “تطبيعية” و هل هي حقا كذلك؟

رابعا و أخيرا، ماهو الموقف الاسرائيلي في علاقة بموضوع “التطبيع” بشكل عام و “التطبيع الثقافي” بشكل خاص؟

رؤيتين متناقضتين: “الماضوية” و “المستقبلية”؟

تبرز نرجسية خطاب المدافعين عن “مشاركة الصباح” في تصور طبيعة الصراع الفكري المؤطر للجدال الراهن. و على سبيل المثال كان السيد خميس الخياطي حاسما حيث رأى أن “القضية” لا تكمن في مجرد الموقف من “مشاركة الصباح” بل تتجازوها لتعكس “رؤيتين متناقضتين” تمسحان مختلف المسائل. و في علاقة بالمنددين بـ”مشاركة الصباح”، حسب السيد الخياطي، فنحن بصدد “رؤية ماضوية ديماغوجية” تتميز بتمسكها بنهج يهمش ماهو سياسي لمصلحة ماهو عقائدي و حسي، فهي ضمنيا “لا تضع السياسي نصب عينيها” و لا تفصل “بين العاطفي و العقلاني”. و في مقابل ذلك فإن موقف الدفاع عن “مشاركة الصباح” يعبر في الاساس، حسب الخياطي، عن “رؤية مستقبلية” (عوض المصطلح المهترئ “تقدمية”؟) معزولة، و من ثمة هي على الضد، مما هو سائد في العالم العربي/الاسلامي من “أمية” و “ظلامية و خرافة”.1 في نفس الاتجاه يقترح السيد حبيب الكزدغلي في دفاعه من “مشاركة الصباح” صراعا بين رؤيتين: الأولى تطالب بكل شيئ أو لاشيئ و من ثمة غير واقعية في حين الرؤية الأخرى تعبر عن موقف أناس”إصلاحيين و عقلانيين”.2

و الواقع هناك ما يكفي من المعطيات كما سنرى للاعتقاد بأننا بصدد خطاب نرجسي غير مبرر. فحسم مسألة ما إذا كان الدفاع عن “مشاركة الصباح” يعبر عن موقف “مستقبلي” و “غير ماضوي” و “عقلاني” و “غير ديماغوجي” و “يضع السياسي نصب عينيه” و “يفصل بين العاطفي و العقلاني”، فحسم هذه المسألة، إذا، لا يحتاج إطلاق شعارات مماثلة بقدر ما يحتاج تمحيصا هادئا لظروف و أهداف المسابقة المعنية و من ثمة معنى “مشاركة الصباح” فيها. فهل قام المدافعون عن “مشاركة الصباح” بذلك أم انخرطوا في تهويمات و تجريدات لاعقلانية تجتر الماضي في أثواب جديدة و من ثمة فهم ليسوا جادين في إيجاد مخارج نحو مستقبل أفضل؟

منظمي “المسابقة”؟

بدت أكثر المسائل غموضا و ضبابية في كتابات المدافعين عن “مشاركة الصباح” المسألة التي من المفترض أن تكون الأكثر إهتماما و تمحيصا خاصة عندما يتعلق الأمر بأصحاب “رؤية عقلانية”. حيث تفادى هؤلاء عرض و تقديم بديهيات أساسية في ردودهم تتعلق بمنظم المسابقة و كيفية “مشاركة الصباح” فيها. بل أن عرضهم لمصدر و للإطار التنظيمي للمسابقة غير دقيق و ساذج في أقل التقديرات هذا إذا لم يكن مضللا. فبالنسبة للسيد رضا الكافي يتم التعرض للمنظمين في صيغة المبني للمجهول، مثل وصف ما يجري على أنه مجرد “اشتراك في عملية” من دون توضيح لطبيعة و منظم هذه “العملية”، في حين أنه الشخص الرئيسي المعني بالجانب التنظيمي في “المسابقة” ممثلا لدار الصباح و من ثمة الأعرف بماهية المنظيمين.3 و حتى عندما يتعرض السيد الكافي للصفة الإسرائيلية للمنظمين يقوم بذلك من خلال الحديث في العام عن “تشارك” مع “مؤسسات إسرائيلية”.4 في حين يتمادى السيد الكزدغلي، و هو الجامعي الذي من المفترض أن يتحرى من مصادره، إلى حد إما الجهل أو التضليل الفاضح عندما يقبل القول القائل بأن “المسابقة أطلقت من قبل عدد من المؤسسات و صحف ضفاف البحر المتوسط”.5

يأتي هذا في الوقت الذي يمكن فيه الإطلاع مباشرة على مختلف تفاصيل “المسابقة” و إطارها التنظيمي و الظروف التي حفت بإطلاقها على الموقع الالكتروني لمطلقيها و منظمها الرئيسي أي المؤسسة الإسرائيلية “مركز بيريز للسلام” (Peres Center for Peace).6 حيث أن الأمر لا يتعلق بـ”عدد من المؤسسات و الصحف” بقدر ما هو أحد الأنشطة و المشاريع التي يقوم “مركز بيريز للسلام” بالإشراف عليها بوصفه مطلق المبادرة و الراعي الفكري و المادي لها. و بالرغم من تعرض عدد من التقارير الصحفية لهذه التفاصيل فإنه لا ضير من إعادة عرض بعض المعطيات هنا خاصة لأهميتها اللاحقة في نقاش مسألة “مشاركة الصباح”.

و تأتي “المسابقة” ضمن محور “الثقافة” في أحد مشاريع المركز المسمى “المتوسط 2020” (Mediterranean 2020) و الذي يحتوي أركان و من ثمة “مسابقات” و “ورشات” أخرى ضمن محاور “الهوية” و “الديبلوماسية” و “البيئة” و “الاقتصاد”.7 و تم تكليف إدارة خاصة من قبل “مركز بيريز للسلام” للإشراف على المشروع بشكل عام باسم “مؤسسة ليو سافير لرؤية المتوسط 2020” (Leo Savir Foundation for a Mediterranean Vision 2020) و تكليف المركز للباحثة الاسترالية-الاسرائيلية الشابة رونيت زيمر (Ronit Zimmer) لإدارتها. و مثلما هو واضح من اسم المركز فقد تم تأسيسه من قبل الرئيس الاسرائيلي الحالي شيمون بيريز في حين يقوم برئاسته حاليا أوري سافير (Uri Savir) أكثر المقربين لبيريز الذي سمى المؤسسة التي تدير مشروع “المتوسط 2020” باسم والده السفير الاسرائيلي الأسبق ليو سافير. و مثلما هو مذكور تحت ركن “مهمة” المشروع8 يمكن اعتبار أوري سافير المهندس الأساسي للمشروع خاصة من خلال مقال كتبه سنة 2006 بعنوان “السلام المتوسطي” محمل على موقع المركز.9 و لأن “مركز بيريز للسلام” هو المبادرفي تنظيم “المسابقة” فإن الصحف المشاركة التحقت بدعوة منه. و لهذا تحديدا يبدو أن دار “الصباح” التحقت بشكل متأخر حيث لا يرد اسمها في قائمة الصحف المشاركة على الصفحة الرئيسية للموقع الالكتروني10 في حين يرد اسمها على الوثيقة الملحقة (المعدلة) الموضوعة على أحد الوصلات.11 تبقى الإشارة الى أن الرابحين في مسابقة الرسم (التي من المفترض أن يحاكي فيها “أطفال بين سن 15 و 18 عاما” أحد أشهر رسومات بابلو بيكاسو) سيلتقون في مالقة الاسبانية في حين سيتكفل “مركز بيريز للسلام” بتغطية مصاريف اللقاء.

و في الواقع يعود تهرب المدافعين عن “مشاركة الصباح” من عرض بسيط لمنظمي “المسابقة” الى أنها نقطة محورية في حسم مسألة أساسية هي :هل نحن بصدد مبادرة “تطبيعية” أم لا؟ إذ لا يرغب هؤلاء الاقرار بأن ما يجري يندرج ضمن مسارات “التطبيع” عموما و “التطبيع الثقافي” خصوصا.

هل تهدف “مشاركة الصباح” لنشر “ثقافة السلام” أم هي مبادرة “تطبيعية”؟

للمفارقة يحرص المدافعون عن “مشاركة الصباح”، في الوقت الذي يتجاهلون فيه عرضا دقيقا لماهية منظمي “المسابقة”، على التأكيد على أن “الشركاء” الإسرائيليين المعنيين في هذه “المسابقة” يدافعون عن “ثقافة السلام” بل و أيضا “مناضلين من أجل السلام”. يعتبر السيد الكافي، عل سبيل المثال، في إشارة للـ”المسابقة” أن التشارك مع الاسرائيليين “الذين يناضلون من أجل السلام، و هم لحسن الحظ كثيرون، لا يجب أن تعتبر جريمة”، و يضيف الكافي أن هؤلاء “يعملون بنزاهة على وضع حد للانزلاق نحو الكراهية و العنف”.12 في مقابل ذلك ينخرط الكافي في خطاب شعاراتي مثير للغرابة مثل القول بأن معارضة “المسابقة” لا تعني معارضة “ثقافة السلام” فحسب بل أيضا معارضة “التضامن مع الشعب الفلسطيني”.13

في نفس الاتجاه يعتبر السيد نزار البهلول بأن المعارضين للـ”المسابقة” لا يهمهم كثيرا أن “المؤسسات” المعنية بهذه المسابقة “معروفة برغبتها في السلام، و ماضيها المسالم النضالي”.14 و يبدأ السيد “عدنان الحسناوي” في “عريضة” (ليس من الواضح مآلها) لدعم “مشاركة الصباح” بالإقرار المبدئي بأنها مساهمة في “عمل يهدف نشر ثقافة السلام”.15 السيد زياد الهاني، و الذي كان مصدر أول التصريحات في هذا الشأن، اعتبر أن المشروع “يخدم ثقافة التسامح و السلام و التواصل بين شباب المتوسط” و أن “المؤسسات التي تتبنى مثل هذا المشروع تستحق التهنئة”.16

و الى جانب العناوين الشعاراتية التجريدية التي تعتبر ضمنيا “مركز بيريز للسلام” و من يقفون وراءه “مناضلين من أجل السلام” يوجد من يواجه المسألة بشكل مباشر لنفي صيغة “التطبيع” عن “المسابقة”. فالسيد الخياطي يطلق ما يشبه المصادرة الشعاراتية الباعثة على الحيرة بأن ما يجري “ليس تطبيعا” بل هو “حوار”. و في الواقع لا يبدو أن السيد الخياطي، الذي يمثل حسب تصوره لذاته “رؤية عقلانية”، يرى أي مبرر لأن يوضح لماذا لا يمكن اعتبار هذا “الحوار” مبادرة “تطبيعية” سوى الاشارة الايتمولوجية المضطربة الى أن ما يجري “ليس تطبيعا كما يدعي القومجية عندنا، لأننا لم نعش يوما حياة جيرة طبيعية مع إسرائيل”، كأن معنى “التطبيع” (normalization) هو ضرورة “العودة الى حياة طبيعية” و ليس “تطبيع” ما لم يكن طبيعيا أو “عاديا” حتى نقترب أكثر من معنى الأصل الاصطلاحي الانجليزي.17 السيد الكزدغلي يحاول أن يقدم أفكارا أقل سطحية عندما يعتبر أن “تعليم الأطفال للسلام” ليس “تطبيعا مع السياسات العدوانية”. غير أنه، و مثلما تمت الاشارة أعلاه، لا يحاول وضع “المسابقة” ضمن إطارها التنظيمي و بالتالي السياسي الحقيقي حتى يمكن أن نقرر أن ما يجري هو مجرد “تعليم الأطفال للسلام”.18

و مرة أخرى لا نحتاج للكثير من الوقت حتى نحسم مسألة ما إذا كانت “المسابقة” الاسرائيلية تساهم في نشر “ثقافة السلام” أم مبادرة “تطبيعية” (و من ثمة “مشاركة الصباح” فيها، كذلك، مبادرة “تطبيعية”). يتوقف ذلك على أمرين يستوجب كلاهما حدا أدنى من البحث العقلاني و الهادئ: أولا، الهوية السياسية لمنظمي “المسابقة” و ما إذا كانوا “معروفين بكونهم مناضلين من أجل السلام”. ثانيا، بحث في في وثائق “مركز بيريز للسلام” خاصة تلك المتعلقة بالتأطير الفكري و السياسي للـ”المسابقة”. و في الحالتين لم يبد أي من المدافعين عن “مشاركة الصباح”، الذين من المفترض أنهم يمثلون “رؤية عقلانية” لا تقبل التحاليل الخرافية، أي رغبة في المحاججة و البحث في أي من هذين الاتجاهين، في الوقت الذي يطلقون فيه المصادرات التجريدية في علاقة بالتحديد بهذه المسائل.

إذا لننظر أولا في هوية “مركز بيريز للسلام” و الواقفين وراءه. لأبدأ بملاحظة أن المؤسسة المعنية “غير حكومية” إلا أن مؤسسها و رئيسها السابق (شيمون بيريز) و رئيسها الحالي (أوري سافير) من السياسيين الذين عملوا لفترات طويلة في الدولة و في حكومات متعاقبة. من ثمة تقييمها يتوقف على تقييم شيمون بيريز و أوري سافير كممثلين لتيار تواجد بشكل شبه مستمر طيلة العشريات الفارطة في الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة سواء تلك التي سيطر عليها “حزب العمل” أو الائتلافية. و من ثمة فإن المؤسسة المعنية، رغم أنها “غير حكومية”، إلا أنها تعبر عن رؤية “حكومية” فاعلة منذ إعلان دولة إسرائيل، بوصف بيريز من بين آخر “الآباء المؤسسين” الباقين على قيد الحياة.

من دون إطالة، يبدو تقييم بيريز، ما إذا كان “مناضلا من أجل السلام”، مسألة غير معقدة. و قد صدرت منذ أشهر قليلة “سيرة ذاتية” (بيوغرافيا) رسمية (أي صادق عليها المعني) لبيريز كتبها مايكل بار زوهار (Michael Bar-Zohar) قدمت الصورة التي يرغب بيريز الظهور بها و هو الأمر الذي يتوافق، حسب العروض النقدية للكتاب، مع الوقائع (و هو الأمر الذي لا يحدث دائما بالنسبة لشخص مثل بيريز). و تزامن صدور النسخة الانجليزية للكتاب (النسخة العبرية صدرت منذ سنة 2006) مع حملة بيريز للحلول محل كاتساف في منصب الرئاسة الإسرائيلية. و بالاعتماد على رزمة من المعطيات ينتهي الكاتب الى أن بيريز”رجل أمن و ليس سلام” (A man of security, not peace) و هي الخلاصة التي يقع تقديمها بشكل مدحي و ليس ذمي. و على سبيل المثال يقدم الكاتب محطات أساسية للتأكيد على ذلك من بينها: بيريز كمهندس أساسي لحرب 1956 من خلال موقعه كأقرب مستشاري بن غوريون، بيريز كمهندس للاتفاق الاسرائيلي الفرنسي للحصول على القنبلة النووية، و بيريز كمهندس للـ”الحائط العنصري” الذي تمت إقامته من قبل حكومة شارون (و التي شغل فيها بيريز منصب نائب رئيس الوزراء).19 طبعا لا تتعرض هذه السيرة لما يمكن أن يرقى بسهولة الى مرتبة “جرائم الحرب” مثلما هو الحال بالنسبة للمسؤولية المباشرة لبيريز في قصف مقر الأمم المتحدة في “قانا” و عشرات المدنيين الذين قتلوا في الملاجئ و هو ما تم تضمينه في تقارير أممية. و دوره في مباركة القصف العشوائي على المدنين في لبنان، الأمر الذي دعمته تقارير منظمات محايدة بما في ذلك التقرير الأخير لمنظمة “هيومان رايتس واتش”، من خلال دعمه حكومة أولمرت في “حرب تموز” الصائفة الماضية في لبنان. هذا عدى مباركته عمليات الاعدام خارج القانون للقادة السياسيين للمقاومة الفلسطينية و ما يتم من خلالها من قتل للمدنيين. و قد سبق لبعض الكتاب أن أكدوا على “الشراهة الحربية” لبيريز و محاولته إخفاءها تحديدا من خلال خطوات مثل تأسيس “مركز بيريز للسلام” و الذي سبق أن خلفت أنشطته جدالا حادا بين الأوساط الفلسطينية.20 و سواء تعلق الأمر بما يرغب بيريز في الظهور عليه أو الصورة التي يقدمها منتقدوه فإننا بالتأكيد لسنا بصدد “مناضل معروف من أجل السلام”. طبعا يمكن لبيريز أن يقول أي شيء عندما يتعلق الأمر بـ”صناعة السلام” في هذه المناسبة أو تلك: و لعله من المثير أن نعرف، و هو الأمر الذي يمكن أن يهم تحديدا السيد الخياطي و اختياراته الاصطلاحية حول “الرؤى الماضوية و المستقبلية”، أن أكثر كلمات بيريز ترديدا قوله “لا أنظر البتة الى الوراء. بما أني لا أستطيع تغيير الماضي، لماذا علي التعامل معه؟ يجب عليك التعامل فعلا مع المستقبل”.21 و يصعب حقا التوصل لنتيجة معاكسة في علاقة بأوري سفير أقرب مقربي بيريز و هو الذي عمل لفترة كمدير عام لوزارة الخارجية الاسرائيلية و أشرف بصفته تلك على التوصل لـ”اتفاقيات أوسلو” (يشغل سافير الآن مقعدا في الكنيست الاسرائيلي). فمع الغبار الشعاراتي الكثيف حول “السلام” الذي يمكن يثيره سافير إلا أنه لا يتورع أن يكتب مثلا، إثر وقف إطلاق النار في “حرب تموز” الأخيرة و ما يفوق الألف قتيل من المدنيين اللبنانيين (و الذين من بينهم مئات الأطفال الذين كان منهم ربما من يرسم “حمامة سلام” عند مقتله)، أن يكتب ما يلي: “بالرغم من أننا لم نكن منتصرين حسب المعايير العسكرية المطلقة، فإن الحملة التي انتهت للتو تم قيادتها بشكل مناسب كما تم تحقيق معظم أهدافها”.22 طبعا يبقى من الضروري الحديث في هذا الإطار عن “اتفاقيات أوسلو” و التي أشرف عليها كل من بيريز و سافير و مدى تعبيرها عن رغبة جدية في السلام. و هنا ليس من العناء المحاججة أن ياسر عرفات “الاصلاحي المتدرج و العقلاني” (حسب العبارات المحبذة من قبل السيد الكزدغلي مثلا) قد تم قتله في مقره المحاصر في رام الله بعدما رفض تصفية قضية شعبه مقابل العمل كحارس أمن لإسرائيل… و هو الهدف الذي تبين أنه الحد الأقصى إسرائيليا (سواء “العمل” أو “الليكود”) لـ”دولة فلسطين” كما فهم الزعيم الفلسطيني في محادثات كامب ديفيد مع باراك و بقية الفريق البيريزي سنة 2000 (تم عرض “الحد الأقصى” الاسرائيلي خاصة من قبل “حزب العمل” في تلك المحادثات في الرواية الأكثر مصداقية حسب عديد المراقبين و هي لروبرت مالي Robert Malley مستشار الرئيس كلنتون للشرق الأوسط و الذي شارك فيها).23

أنتقل الآن الى النقطة الثانية و التي على أساسها يمكن حسم ما إذا كانت “المسابقة” مبادرة “تطبيعية” أم مجرد نشر لاسياسوي لـ”ثقافة السلام”؟ سأبقى هنا مع أوري سافير بوصفه منظر مشروع “المتوسط 2020” (و التي تندرج ضمنها “المسابقة” الثقافية التي تشارك فيها “الصباح”) كما هو مذكور في تقديم المشروع. و في الحقيقة ليس أفضل هنا من عرض أهم الأفكار الواردة في مقال سافير، المذكور أعلاه، و الذي يعتبره هو ذاته الإطار الفكري و السياسي لمشروع “المتوسط 2020”. و بالرغم أن أي طرف جاد في السلام يمكن أن يقتطف الاستعداد العربي الرسمي غير المسبوق (“إعلان قمة بيروت”) للـ”تطبيع” مقابل الانسحاب من أراضي سنة 1967 و هو الأمر الذي بدأ يحظى حتى بموافقة ضمنية لأطراف أساسية في الصراع المسلح (مثل حماس) فإن سافير يرى أن الحل لا يكمن في التوصل لاتفاقيات سياسية ضمن ظروف الوضع الراهن و هو الأمر المؤجل حتى في علاقة بإطار”خريطة الطريق”. في المقابل يبدو أن الوقت مناسب، حسب سافير، للقيام بأمر أساسي يسبق أي اتفاقيات سياسية و من ثمة يسمح بنجاحها (حسب مفهوم “النجاح” الاسرائيلي): “حل شامل و أكثر نجاعة يمكن أن يتطلب خلق ثقافة متفهمة للتعايش السلمي عبر التواصل على المستوى الإقليمي—المنطقة المتوسطية”.24 و بمعنى آخر لا يرى سافير أن “السلام” ممكن عبر اتفاقيات سياسية ضمن الإطار البديهي القائل بـ”تبادل الأرض مقابل السلام” بل يراه، قبل كل شيء في خلق “تواصل إقليمي”: أي “تطبيع” من دون إنسحابات. طبعا فإن سافير “المناضل المعروف من أجل السلام” لا يشذ عن موقف الطبقة الإسرائيلية السياسية الرسمية من حيث أنه يعتبر أن العنف الفلسطيني بإجماله “رعبا” (terror) و ليس مجرد “إرهاب” (terrorism) و أنه المصدر المستفز للعنف الإسرائيلي. فهل يمكن أن يكون هذا الإطار المفهومي للـ”المسابقة” الذي يندرج ضمن مشروع “التطبيع” قبل قيام إسرائيل بأي إلتزام سياسي للانسحاب من أراضي محتلة سنة 1967 (و هو ما يعني آليا الاعتراف بـ”حقها في الوجود”)، هل يمكن أن يكون ذلك مجرد توجه لاسياسوي “لنشر ثقافة السلام” و ليس مبادرة “تطبيعية” ضمن خطة سياسية إسرائيلية للتملص من الاستحقاقات؟

مغزى “التطبيع” في الاستراتيجيا الاسرائيلية

السؤال الأخير الماثل أمامنا يكمن تحديدا في موقع رؤى بيريز و سافير في علاقة بموضوع “التطبيع” ضمن تقاليد الرؤية الاسرائيلية لهذا الموضوع: فهل نحن بصدد خطاب “سلام” استثنائي و “حالم” يدعو للتفاهم بمعزل عن أي رؤى سياسوية أم أننا بصدد رؤية ثابتة تعتبر مطلبية “التطبيع” خطة سياسية و صيغة أساسية للتملص تحديدا من أي إمكانية لإقامة “سلام عادل و شامل” في المنطقة؟

كان مطلب “التطبيع” قبل عقد اتفاقية “الحل النهائي” (أي حل القضية الفلسطينية) بشكل دائم في صدارة المطالب الاسرائيلية في أي مفاوضات مع الجانب العربي. سأكتفي هنا بعرض محطات محددة للتدليل على ذلك.

أولا، مثلما توضح أحد وثائق الأرشيف السري الأمريكي و خلال مفاوضات “كامب ديفيد” سنة 1978 بين الجانبين الاسرائيلي و المصري كان من بين أهم هواجس الجنرال دايان و التي حرص على تكرارها أمام الرئيس كارتر ما اعتبره نوايا مصرية “لإبطاء التطبيع في العلاقات”. حيث من الواضح أن مطلب “التطبيع” مع الطرف المصري كان على رأس أولويات الجانب الاسرائيلي و واحدا من بين الأسباب الأساسية لعقد “اتفاقية سلام”. لكن ما يلفت الانتباه أن ذلك المطلب كان مرتبطا بفصل المفاوضات حول سيناء عن أي مطالب أخرى في علاقة بالقضية الفلسطينية. و بمعنى آخر كان الإسرائيليون يرغبون في تطبيع العلاقات مع مصر من دون الالتزام بأي حل في علاقة بالصراع الأساسي في المنطقة و هو احتلال الأراضي الفلسطينية. و هو الأمر الذي قبله في نهاية الأمر الرئيس السادات و أدى إلى عزلة مصر عن محيطها العربي و هو الأمر الذي أدى لسياسة “التطبيع الباردة” التي بدأها الرئيس مبارك بعد مقتل السادات.25

ثانيا، سبق التحضير لـ”مؤتمر مدريد” بداية التسعينات ورقة لإسحاق شامير عرفت باسم “خطة الأربع نقاط” (Shamir’s four-point plan). و كانت تلك الورقة المرجعية الرئيسية بالنسبة للإدارة الأمريكية أثناء التحضير للمؤتمر. و من بين الأربع نقاط تبين أن النقطة الثانية كانت على رأس أولويات الجانب الإسرائيلي. و تتعلق هذه النقطة بمطلب إسرائيلي يتمثل بتطبيع العلاقات مع مجمل الأطراف العربية، من خلال مفاوضات ثنائية مباشرة، قبل التوصل لأي حل سياسي نهائي في القضية الفلسطينية و ذلك “لبناء جو من الثقة”.و يتم تقديم هذه الرؤية بطريقة مشابهة للغاية مع أفكار سافير المذكورة أعلاه. 26

ثالثا، في وثيقة اتفاقية “معادة السلام الأردنية الأسرائيلية” (المعروفة باتفاقية “وادي عربة”) الموقعة سنة 1994 كان من بين البنود الأولى القسم المتعلق بشكل واضح بـ”التطبيع الثقافي” بما في ذلك تغيير المناهج الدراسية الحكومية. و هو ما اشتمل على “الامتناع عن بث الدعايات المعادية” (في أردن غالبية سكانه من الفلسطينيين) في وقت يستمر فيه احتلال الاراضي الفلسطينية و السياسات العدوانية و الاستيطانية هناك.27

رابعا، في تصريحات أخيرة لوزيرة الخارجية الإسرائيلية في حكومة أولمرت (التي يشارك فيها بيريز و مجموعته) تزيبي ليفني أشارت فيه الى أن “تطبيع العلاقات مع الدول العربية سيساهم في تسريع إنهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني”. و هذا يعني، مرة أخرى، التأكيد على الرؤية الاسرائيلية الثابتة القاضية بأسبقية “التطبيع” عربيا على أي التزام إسرائيلي بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية.28

أمام هذا الثابت الإسرائيلي في علاقة بمحورية “التطبيع” يبدو موقف بيريز و سافير ضمن إجماع إسرائيلي مستمر يقضي بمطلبية “التطبيع” قبل أي إلتزامات بالانسحاب. و هو ما يعني إفشالا لأي فرص جدية لـ”سلام عادل و شامل” في المنطقة.

هل يمكن بعد ذلك لأي رؤية “عقلانية” و “مستقبلية” النظر لـ”مسابقة” مشروع “المتوسط 2020” أنها مجرد مبادرة غير سياسوية “لنشر ثقافة السلام” عبر توفير الفرصة للأطفال كي يرسموا الحمائم؟

أعتقد أن هناك فعلا “رؤيتين متناقضتين”: رؤية عقلانية تقدر أن “التطبيع” السابق لأي إلتزامات اسرائيلية للانسحاب هو ثمن مجاني و ساذج يخدم مصلحة إدامة الصراع الراهن و بالتأكيد لا يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني (الذي بالمناسبة لم يحسم أمره في اتجاه “الحوار الأزلي” بما في ذلك فريق الرئيس عباس). في مقابل ذلك توجد رؤية ساذجة تهيم في خطاب ديماغوجي للـ”السلام” تعتقد أن تصور العدوانيين كـ”رجال سلام” و الغوص في عالم طوباوي من “النوايا الحسنة” المعزول عن الأطر السياسية الواقعية بالاضافة لتصوير بعض الحمائم على طراز حمامة بيكاسو خطوات كافية لتغيير وجه المنطقة.

إن المقولة التي رددها بشكل متكرر المدافعون عن “مشاركة الصباح” و التي مفادها “أننا نصنع السلام مع أعدائنا و ليس مع أصدقائنا” ليست غير مسبوقة و هي أيضا صائبة بشكل عام. و لكن ترداد شعار مماثل غير كافي إذا أردنا التحلي بالعقلانية. فالمسألة التي تحتاج التمحيص في تلك الحالة هي “ما إذا كان الحوار مع أعدائنا يخدم قضية السلام أم يعرقلها؟” و هو ما ينطوي على عدد من الأسئلة الجوهرية التي من بينها “هل أن أعداءنا على استعداد بناءا على ممارساتهم لعقد سلام عادل و شامل؟” لكن في الحالة التي بين أيدينا رأينا كيف أن “الحوار” (بما ذلك عبر الرسم للأسف) يعني بالنسبة لأعدائنا أمرا آخرا تماما من الناحية السياسية. فهو جزء من خطة سياسية عامة (ليست جديدة) تحت عنوان “التطبيع” تستهدف التحصل على “الاعتراف و القبول و من ثمة الأمن” من دون تقديم أي إلتزامات جدية على صعيد “حل نهائي عادل” للقضية الفلسطينية. و إلى أن يعبر الإسرائيليون (و أعني هنا تحديدا القادرين على التأثير على الموقف العام) عن نوايا جدية في ذلك الاتجاه فإن موقف مقاومي “التطبيع” هو الموقف الصائب تاريخيا و براغماتيا على السواء. و بذلك المعنى هو الموقف العقلاني الوحيد الممكن بعكس الموقف الآخر المدافع عن “السلام” (في صيغته “التطبيعية”) حتى لو حمل بكثافة شعار “العقلانية”.

ملاحظة أخيرة

Post-scriptum

علي أن أختم بملاحظة موجهة تحديدا للسيد رضا الكافي. حيث أني لم أنس بعد أن الأخير سرق منذ سنتين (في صيغة مقال مترجم الى الفرنسية لمصلحة “جون أفريك”) عرضا نقديا كتبته عن كتاب مايكل لاسكييرحول موضوع “التطبيع” في المغرب العربي. و هو الأمر الذي قدمت حوله ما يكفي من الأدلة في وقت سابق (أنظر تونسنيوز عدد 22 سبتمبر 2005 و لكن خاصة عدد 25 سبتمبر 2005 حيث قدمت عرضا تفصيليا و مطولا عن هذه السرقة) و لم يبلغ الى علمي أنه رد بشكل مفصل على ذلك أو قدم اعتذارا (باستثناء “رد” يشبه بعض البيانات الرسمية الخشبية المختصرة نفى فيه الأمر جملة و تفصيلا نشره في عدد تونسنيوز 23 سبتمبر 2005). و يبدو على كل حال، حسب بعض مصادري، أن انكشاف الأمر كان من بين أسباب إبعاده عن فريق تحرير “جون أفريك”. لكن ما دفعني لتذكر هذه الحادثة أن السيد الكافي لم يتعلم أي شيئ من المؤلف المذكور (الذي من المفترض أنه “قرأه”) مثلما يشير الى ذلك الدور الطليعي الذي بصدد لعبه في مسألة “مشاركة الصباح”. حيث بين لاسكيير بالاعتماد على رزمة هائلة من الوثائق الأرشيفية أن السياسة الاسرائيلية كانت تدفع دائما باتجاه “التطبيع” المجاني مع الأقطار المغاربية. في المقابل لم يقبل أي من القادة المغاربيين بما في ذلك أولائك الذين كانوا يحرصون على إقامة اتصالات سرية مع الدولة العبرية (و هذا يشمل الرئيس الراحل بورقيبة) بأي مبادرة تمنح بشكل فعلي إسرائيل مطلبها “التطبيعي” بمعزل عن “الاجماع العربي” و عن إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية. و هو الأمر الذي يعمق من الأسى الذي شعرت به منذ سنتين عندما قرأت مقال السيد الكافي الذي “ترجم” مقالي للفرنسية