بقلم صابر

الهجرة إلى أوروبا أصبحت هي الحلم المغرى للشباب التونسي ( وأبناء دول الجنوب عموما ) الطامح إلى الهروب من الوضع الإقتصادي والإجتماعي والسياسي الصعب وفي سبيل هذا الهدف يركب الشاب قوارب الموت ويبحر إلى المجهول وكله أمل في الوصول إلى الضفة الأخرى والإفلات من عيون البوليس الذى يحرس الضفتين وعرض البحر أيضا.

هذه الرحلة أو المغامرة المحسومة في ذهن الشاب – والغير محسوبة في ذهنه تماما لأن القدر وحده يعلم ما ستؤول إليه الأمور – هي رحلة العمر ومشروع الحياة لتحسين الوضع المادي له ولأسرته , قد لا تنتهي في أحيان كثيرة بالعبور إلى بر الأمان والمال وإنما بالموت بعد أن يلفظ البحر جثة المهاجر الضحية إلى الضفة التى كان يريد الوصول إليها حيا ولكن الموت يعاجله قبل أن يصل إلى مراده ومنهم من يبتلعه البحر فيلتقمه الحوت ويسجل في دفاتر المجهول ومنهم لا يُعرف مصيره وهناك عوائل إلى اليوم لا تعرف مصائر أبناءها وهي تبحث عن إجابة شافية لا تعرف من أي جهة تستقيها , والإحصائيات الرسمية تتحدث عن آلاف الضحايا الذين يسقطون سنويا في عرض المتوسط , أما من يصل منهم إلى الضفة الأخرى فقد يكون مصيرهم السجن في ” قوانتنامو ” في جزيرة لمبادوزا الإطالية كما يسميه ” الطليان ” وهو المعسكر الذى أنشأته السلطات الإيطالية لتحتجز فيه المهاجرين السريين , أما من يعبر وينجو من كل هذه المطبات فليس بالضرورة أن يكون أكثر حظا ذلك أن متاعب أخرى تبدأ وهي البحث عن الإستقرار و الإقامة والعمل , خاصة أن في السنوات الأخيرة أصبحت هذه المهمة صعبة.

مأساة ” الحرقة ” تتكرر كل يوم والضحايا يسقطون في كل عبور ولكن الرحلة إلى الشمال على كف العفريت لم تتوقف بالرغم من أن المهاجرين السريين يعلمون تماما ما ينتظرهم ولكنهم يفضلون أن يرموا بأنفسهم إلى المجهول بدل البقاء في بلدانهم على المجهول , ومن المواقف الذى تسجل على المهاجرين السريين أن أحدهم سأل أحد الذين رشح نفسه للهجرة السرية بالقول : ألا تخشى أن يأكلك الحوت في عرض البحر ؟ فرد بالقول : أفضل أن يأكلني الحوت في البحر بدل أن يأكلني الدود في الوطن . وقد عبر المهاجرون الأفارقة خاصة على تصميم لا يلين بأن الوصول إلى أوروبا سيبقى هو الحلم الذى لا يمكن التنازل عليه مهما كانت التضحيات بالرغم أن منهم من فشل في الوصول ثلاث أو أربع مرات وإضطر إلى العودة أدراجه في رحلة قسرية بعد أن إنكشف أمره في منتصف الطريق مخلفا وراء الحسرة على الفشل وبعض رفاق السفر الذين لفظوا أنفاسهم , ومنهم من يكون ضحية تحايل المهربين الذين عقدوا معهم صفقة العبور إلى أوروبا . هذه الرحلة مكلفة ماديا أيضا قد يضطر معها المهاجر السري إلى الإدخار لسنوات أو بيع بعض أغراض بيت الأسرة أو للتداين.

لقد أصبحت هذه القضية مأساة متكررة لم تعالج إلا بالحراسة الأمنية على كلى الضفتين والتنسيق الأمنى بين الجانبين ودفع الأوروبيين لمساعات مالية وتقنية لدول العبور والهجرة كي تقف بلدان الجنوب ومن بينهم تونس حارسة لأوروبا التى أصبحت تتحول إلى قلعة بفعل الإجراءات الأمنية المشددة وترسانة القوانين التى تستهدف الهجرة والمهاجرين.

إن الأسباب التى تدفع بالشباب إلى الهجرة كثيرة ولكن الأسباب العامة للهجرة السرية هي الظروف الصعبة التى يعيشها الشاب في بلاده وإنعدام الأفاق التى تلبى الطموح الذى يسكن هذه الفئة العمرية وتغذى كل ذلك الروايات الجاهزة عن أوروبا ونعيمها ورخاءها . ولا يعلم هؤلاء الشباب أن بعض من بلغ مراده ندم على الهجرة بعد أن تقطعت به السبل ومرت عليه سنوات قضاها متنقلا من دولة أوروبية إلى أخرى دون أن يحقق حتى مجرد الإستقرار النفسي ولعل ما يعيشه بعض شباب الهجرة في بعض الدول الأوروبية قد لا يصدقه البعض والذى يصل حد الجوع ناهيك عن المبيت في العراء والتشرد والخوف من الوقوع في أيدي البوليس.

إن القضاء على الهجرة السرية أمر غير ممكن بل مستحيل أن يتحقق وقد حاولت الدول المعنية بهذه الظاهرة معالجتها بأساليب بدائية فيها الكثير من الأنانية وصلت حد الإنتقام من المهاجرين وإغراقهم في عرض البحر في جريمة لا تغتفر , والحل في ما يبدو ليس بفرض الرقابة على حدود القارة العجوز ولا تقديم مساعدات مالية للحكومات فقط وإنما لا بد من التفكير في علاجات ناجعة تخفف من هذه الظاهرة ومن ذلك التعاون بجدية مع حكومات الجنوب على تحقيق تنمية مستديمة تستوعب نسب عالية من الشباب العاطل عن العمل وأن لا تكون المساعدات في شكل قروض أو هبات مالية تحول إلى حسابات قد لا يصرف جلها في الغرض الذى رصدت له , وأيضا محاربة الفساد المالى والسياسى الذى تعرفه دول الجنوب ليتحقق في تلك الدول بعض الرخاء المالى والإستقرار السياسى التى تعيشه الدول الأوروبية , ومن الأفكار التى يمكن أن تعتمد عمليا هي إنشاء مصانع وورشات ومشاريع إقتصادية في دول المهاجرين السريين ترتبط بسوق الشغل وتكون منتجاتها بمواصفات أوروبية وتتكفل الدولة الأوروبية بتسويق تلك المنتجات فيحقق الطرفين مكاسب ربحية فوق القضاء على البطالة , وهناك أفكار كثيرة يمكن من خلالها تحقيق بعض طموح الشباب في دول الجنوب كي يتخلى الكثير منهم عن الهجرة وإن كان البعض لن يتخلى عن ذلك.

لقد إستفادت أوروبا من المهاجرين على مدى تاريخ طويل حين كانت تلك القارة في حاجة إلى اليد العاملة إلى أن ظهرت أعراض جانبية للهجرة وهي أعراض طبيعية لكل ظاهرة أخرى وقد نفخ اليمين المتشدد خاصة في أوروبا في هذه الظواهر السلبية فحول الهجرة والمهاجرين إلى شر كله بالرغم من الحاجة الملحة للمهاجرين سواءا في سوق العمل أو في التوازن السكانى ولكن يبدو أن التدفق الهائل لأعداد المهاجرين السريين أحدث نوعا من الخلل جعل بعض الدول تشعر بأنها عرضة لهجوم كاسح لموجات من الهجرة التى لا يمكن إستيعابها

تبقى مسؤولية معالجة هذه الظاهرة بدل مكافحتها هي الفكرة الأسلم , وعلى حكومات الدول التى تشكل مصدر المهاجرين يقع عبىء كبير تجاه مواطنيها المغادرين أوطانهم تحت ضغوط الظروف الإقتصادية والسياسية والإجتماعية المحلية الصعبة والتى وصلت أوضاع مزرية في بعضها وهذا ما يدعو إلى أن التغيير هو الشرط المطلوب وعلى تلك الحكومات أن تقيم تجاربها في الحكم بشكل جدى بعد أن إستقرت على كراسي الحكم عقود طويلة يجعلها ملزمة بتحقيق مكاسب حقيقية لمواطنيها أو الرحيل بدل إستثمار الحكم للثراء والتحكم في الشعوب وتأبيد مشاكلها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية.