سليم بن حميدان

اللجوء السياسي بالنسبة للمغترب هو كالسجن بالنسبة للسجين السياسي يكتسي النضال من أجل إنهائه شرعية ذاتية لا تحتاج إلى تبرير أو إقناع.

إنها مظلمة إنسانية ناتجة عن اضطهاد سياسي خارق للقوانين الدولية والشرائع السماوية.

ذلك ما حدث ويحدث للآلاف من التونسيين الذين اضطرتهم قسوة النظام الحاكم إلى مغادرة الوطن والتشرد في أصقاع العالم قبل أن يستقر بهم المقام في بلاد توفر لهم أمنا مفقودا وحرية مهدورة وعيشا كريما ضن به عليهم ولاة أمرهم.


اللجوء السياسي: عقد لا وضع

عندما يتقدم اللاجئ بطلب اللجوء السياسي فإنه يخضع إلى تحقيق دقيق تعقبه فترة انتظار، عادة ما تكون طويلة، للتثبت من حالته المدنية ودوافع طلبه بغرض التأكد من أن سببه هو الاضطهاد فعلا أم أن وراءه أسبابا مادية واقتصادية يكون الحصول على اللجوء مدخلا لتقنينها واستثمارها.

إنه إذن بالتعريف القانوني عقد حماية يدخل اللاجئ من خلاله في الحماية القانونية الكاملة للدولة التي تعترف له به كحق إنساني.

لحظة الحصول على حق اللجوء هي لحظة فارقة في حياة المناضل السياسي. فالبعض يعتبره إطارا جديدا يوفر له هامشا واسعا من الحرية يوظفه لممارسة قناعاته السياسية والدينية والبعض الآخر يجد فيه وضعا مريحا للتخلص من متاعب النضال والتفرغ للكسب والزوجة وتربية الأطفال.

عند هذا الحد يبقى هم العودة كأمنية عزيزة وحلم نفيس مشتركا بين الفريقين حيث يستيقظ اللاجئ كل صباح على ذكرى أو خبر يذكي فيه جذوة الحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء الذين فارقهم، ربما إلى الأبد، دون وداع (تراجع في هذا الصدد دراسة بسيكو-سوسيولوجية حول اللاجئين الشيليين)

غير أن الهوة تتسع مع مرور الأيام عندما يتحول عقد الإذعان إلى وضع قعود وخذلان يجعل من الكسب أسمى العبادات ومن زينة الدنيا وزخرفها أقصى المنى ومنتهى الغايات.

عندها يمكن القول بأن المناضل قد خان فعلا قضيته وتمعش من نضالات رفاقه ليفوز بخلاص فردي ورفاه مادي ربما لم يكن يحلم به في وطنه وحينها تصدق القراءة المرتكزة على العامل الاقتصادي كمحرك أوحد للنضال والثورة.

تبريرا لقعوده، يبدأ المناضل التاريخي بإيجاد الذرائع والأعذار الواهية التي عادة ما يتحمل فيها تنظيمه أو رفاق دربه نصيب الأسد ويأخذ حلم العودة عنده طريقا آخر للتحقق هو مزيج من تملق وإحباط.


السكوت عن حق العودة : أو الوجه الآخر للفساد السياسي

يختلف وضع السجين السياسي عن المغترب في تمتع هذا الأخير بحرية الحركة التي يوفرها له المهجر للتعريف بقضيته والمطالبة برفع المظلمة المسلطة عليه.

ليس هناك أي مسوغ أخلاقي لطي الملف أو تأجيله تحت أي ذريعة ولو كان ذلك هو أولوية النضال من أجل إطلاق سراح رفاقه من المساجين السياسيين. إن محنة الاغتراب القسري عن الوطن والأهل هي معاناة نفسية لا يعرفها إلا المكتوون بنارها حيث يمكن تشبيهها، دون مبالغة، بالإعاقة الجسدية المتمثلة في بتر عضو حي من الجسد.

فالتاريخ كبعد جوهري من أبعاد الكينونة الإنسانية هو مبتور الوجود اليومي للاجئ السياسي وهو من ثمة كائن مشوه يعاني من إعاقة مزمنة يزيدها خطرا إنكاره لها أو محاولة تسكين أوجاعها بشتى العقاقير الفاسدة.

باختصار يمثل السكوت عن حق العودة شكلا من أشكال الفساد السياسي لأنه لا يخلو أن يكون واحدا من ثلاث:

إما أنه يأس واستسلام لقدر محتوم والتماس لنيله بالمساومة والاعتذار والتوسل والاسترحام ممن بيده مقاليد البلاد والعباد.

أو أنه خيار خاطئ وجبان يؤجل ملفا ساخنا ومعقدا رغبة في تهدئة الخواطر وتجنب الصدام ومناطق الاحتكاك.

أو أنه مجرد إهمال ناتج عن جهل بأبعاد المظلمة وثقلها التاريخي من منظور استراتيجي فيما يتعلق بمستقبل البلاد ودور المغتربين في أي عملية إصلاح سياسي حقيقي قادم.

في كل هذه الحالات يستجيب أصحاب القضية، ذاتيا أو موضوعيا، إلى رغبة أصحاب الحكم في عملية ارتشاء غير معلنة تجعلهم أقرب لعبيد متمردين منهم إلى قادة ومناضلين سياسيين يسطرون للشعب دروب النجاة (انظر “تعليم المقهورين” لباولو فرايري).

إن السكوت عن حق العودة هو إعلان للعجز السياسي وعنوان للاستقالة والجهالة اللتين طالما تؤاخذ عليهما العامة.

وفي إطار النقد الذاتي، أستسمح القارئ الكريم بالتعليق على قول عياض بن عاشور في معرض نقده للعامة بأنها “ترعى وتنتفض، تنتفض وترعى” (الضمير والتشريع، ص 195) بأنه وصف ينطبق تماما على خاصتنا.

أحد الأصدقاء شكا لي يوما نفاق قطاع عريض من المعارضة داخل البلاد بسبب طرحه لقضايا الإرث والمرأة وعدم اكتراثه لقضية المغتربين فأجبته بما قاله الحكيم:


إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

إن طرح ملف العودة كقضية وطنية عاجلة هو مسؤولية أصحابها أولا، أما الذين تنازلوا عنها، ولو إلى حين، فهم عالة على غيرهم، بل هم أشبه بأصحاب القبور إذ هم يتنازلون واقعا عن حقهم في الحياة الكريمة فلا وطن لهم وإن حملوا ألف هوية وجواز.