بقلم الطاهر العبيدي / صحفي وكاتب تونسي مقيم بباريس

taharlabidi@free.fr

إن المتأمل بهدوء في الركح السياسي التونسي، الراسب منذ عشرية ونصف، والراكد منذ بداية التسعينات في نفس المكان، ونفس الزمان ونفس المبررات، يصاب بأنفلونزا الامتعاض والحيرة، من استمرارية القمع الاستباقي المدجج بالحقد المسلح ضد الخصوم السياسيين، والذي بقي مرتهنا للهواجس الأمنية المضخمة، والملطخة بأراجيف التصدي لفيروس الإرهاب، حتى أصبحت هذه الوتريات قرضا طويل المدى، مرتفع الفوائض، ودينا في الرقاب يعطل الجميع من التحرر والانطلاق، ما خلق حالة عامة من الربو السياسي العام، انعكس سلبا على النهوض الوطني في مختلف المجالات، وبات المناخ السياسي قابعا ومنطويا في نفس الخطاب، يلوك بضاعة لم تعد صالحة للاستهلاك المحلي، وغير قابلة للتصدير الخارجي..

فواصل من السبي السياسي

منذ اندلاع تلك المعركة السياسية بين النظام وبين فصيل سياسي معارض، اختلفا في الرؤى والمناهج والتصورات والمضامين، ولم تكن هذه الخصومة متكافئة من حيث العدة والعتاد والوسائل، بين نظام يملك وسائل إعلام بمختلف منابرها، وأجهزة أمن بتعدد تشكلاتها، ومؤسسات حزبية مطوّعة، وأطر إدارية بتنوع وظائفها، وإمكانيات مادية ضخمة، وبين طرف سياسي منزوع السلاح وممنوع من التواجد الإداري والقانوني، معتمدا على الإيمان بمشروعه التغييري السلمي، مستندا على ولاء قواعده، التي آمنت مبدئيا أو عقائديا أو طوباويا أو عاطفيا أو حماسيا بمبادئ وقيم وثوابت الحزب، الذي آثرت التضحية في سبيل إنجاح مشروعه..

ورغم عدم التكافئ من حيث العدة والعتاد، فإن المعركة ابتدأت بخصومة سياسية يمكن اختصارها باختلاف في التوجهات، سرعان ما تحولت إلى حرب شعواء، كانت السلطة فيها الخصم والحكم، مما خلق حالة عامة من السبي السياسي لمجتمع بات يعيش الغليان الصامت، تجاه وضع مرتبك وغير مريح، وواقع تملؤه الشكوك، ومواطنة متأرجحة بين الممارسة المعتلة على أرض الواقع، وبين بنود الدستور التي تنص على حرية الملبس والسكن والتنقل والسفر… وغيرها من الحقوق النصّية والقانونية المقضومة عند التطبيق..

الحصاد المشوّه

لئن كانت السلطة تعتقد أنها انتصرت على خصومها السياسيين بالضربة التأديبية الساحقة، وهي مستمرة منذ سنوات في مواصلة دق نواقيس هذه الحرب المفتوحة، التي التهمت العديد من الإمكانيات الوطنية، بحجّة تحصين النصر الافتراضي، الذي كان حصاده في واقع الأمر فشل أخلاقي، وانهيار قيمي، وتشوّه إنساني، تفوح منه روائح السجون، وطوابير ضحايا إضرابات الجوع الفردية والجماعية، من أجل المطالبة بأبسط الحقوق المدنية، والقصف اليومي ضد كل الأصوات المنتفضة، ورفع الأسلحة الكاتمة للصوت في وجوه قوى الرفض والممانعة، بالإضافة إلى انتهاج العقاب الجماعي الاستنساخي، والقصاص التناسلي، مما جعل البلاد دون تهويل ولا تضخيم ولا تدويل يشار لها بالبنان، وموضع تسائل عن هذا النهج المتصلب، تجاه مجتمع مسالما بطبعه، يرفض ثقافة العنف قناعة، ما ينذر بتغيّر سوسيولوجي لملامح المجتمع، الذي يراكم صمتا موجعا تجاه الضغط النظامي المتواصل، الذي يساهم من حيث يدري أو لا يشعر، في تشكيل مجتمع كيماوي التركيبة، بناء على قاع [1] واستنادا على مقولة


“حذاري فتحت الرماد اللهيب ***** ومن يبذر الشوك يجني الجراح ” [2]

” مكاسب ” في شكل مصائب

إن ما ميّز هذه السنوات العجاف، هي تلك الصور البشعة، الآتية من خلف السجون الموصدة على حقائق مرعبة، التي فتحت فيها أبواب الاجتهاد على التمثيل بأعراض وأجساد الخصوم السياسيين، وبروز فقه التعذيب، تبارت فيها أجهزة أو أشخاص، بمباركة أو بصمت آثم من طرف السلطة أو شق منها، في ابتداع طرق متوحّشة في معاملة مساجين الرأي، ما خلف أثارا سيئة على فصيل كامل من عائلات وأبناء الضحايا، الذين دفعوا فواتير باهظة الثمن، وعاشوا معاناة الغبن السياسي، والقصاص الجماعي، ما يجعل التاريخ الوطني عندهم حبيس محطات معاناة السجون والمراقبة الإدارية، والحرمان من الدفء العائلي، والإحساس بالمظالم الصارخة، والشعور بالمواطنة الدونية، مما يرجّ فيهم مفاهيم العدالة، والحرية، والاستقلال، والانتماء الوطني إلى البلد، الذي لم يمنحهم أعيادا كسائر الأطفال، لأنهم أبناء مساجين، بل منحهم منذ كانوا صبية وبنات، إلى أن أصبحوا رجالا ونساء من المواطنة والانتساب لبلدهم، سوى زيارات التفتيش والمصادرة الأمنية، ومعرفة قاعات المحاكم وبكاء الأمهات، وترمل النسوة وعناوين السجون وأسماء العنابر والسيلونات، وأنواع حصص التعذيب وشتى الأمراض، التي أصابت آبائهم جرّاء رطوبة السجون، وكل مصطلحات المحنة والمعاناة، مما يغذّي فيهم الشعور بكراهية الرمزية النظامية في مختلف تسمياتها..

تأميم المعالجة السياسية

إن الذي زاد الوضع السياسي اختناقا، هو استمرارية النهج اليميني للسلطة، الذي صمّ آذانه عن كل النداءات والأصوات وحسن النوايا، الداعية لطي الصفحة السوداء، والمطالبة بانفراج سياسي لتجاوز الأزمة، ابتداء بما بادر به أحد قيادات الاتحاد العام التونسي للطلبة، الدكتور عبد اللطيف المكي حين طرح

عفو تشريعي عام مقابل عفو قلبي عام (3 )، وما رافق هذا التوجه من تشريح وتفكيك [3] وتفاعلات [4] ، مرورا بكل المحاولات والورقات المستنسخة والمقتبسة والمنسوجة عن المبادرة المنعرج، التي كانت الابتكار الأول قبل غيره [5]، غير أن الجناح الجلمود أمّم قرار المعالجة السياسية لصالح الجناح الأمني، الذي يمارس عملية الهروب نحو المستنقع، حتى أن المبرّرات الأمنية تحولت في نظر العامّة قبل الخاصّة إلى أراجيف، ذلك لأن الواقع أسقط نظرية جدولة الإرهاب الداخلي، بعدما تبين واقعيا وضوئيا، أن الذين اعتبروا في نظر محاضر التفتيش ومحاكم التحقيق انقلابيون على الشرعية المدنية، ورؤوس إرهاب يستحقون العذاب بلا رحمة، وقرونا من السجن توزّع عليهم بالأقساط، لم ينزلوا إلى رد الفعل، سواء حين قبض عليهم متلبسين في غرف نومهم مع عائلاتهم وأبنائهم، أو من غادر منهم السجن بعد سنوات الرماد…

فما من شك أن سياسة تضخيم الخصم السياسي، وعملية الاستنفار المتواصلة، أجلت أو افترست كل الإصلاحات السياسية التي يمكن أن تكون حقنة لتلقيح الجسد السياسي، ضد تغول النهج الأمني على حساب الحقوقي الدستوري، وعلى حساب القانوني المدني الذي خلق هوّة في شكل أخاديد عميقة، بين النظام والمجتمع، وشعورا بعدم الاطمئنان النفسي والاجتماعي لدى المواطن، ذلك لان هذا السخط الأمني تحوّل إلى عدوان مقنن باسم الوطنية أحيانا، وباسم المصلحة العليا أحيانا أخرى، لم يسلم منه حتى المتفرج الفضولي على المعركة، وباتت المقولة العسكرية القائلة ” السخطة عامة والرحمة خاصة” مميزات النسيج الاجتماعي

مفردات النصر والهزيمة

إن المعارك والخصومات السياسية في الغالب ما تنتهي إلى نتيجتين، غالب ومغلوب، وبلغة عسكرية منتصر ومهزوم، وفي بعض الأحيان تنتهي بهزيمة المتنازعين،

ويمكن للمهزوم أو المغلوب أن يحوّل الهزيمة إلى نصر، والفشل إلى انطلاق، حين يقوم بقراءة دقيقة للنتائج، ومراجعة جريئة للوقائع، وتنقيب عميق في مناطق العطب، وبحث مستفيض في كل أماكن الظل، واستبيان أفقي وعمودي للنتائج الأرضية، ودراسة الوقائع والمؤثرات، وتجليات الهزيمة في أبعادها السوسيولوجية والنفسية والحزبية والسياسية، كي تصبح الهزيمة هزيمة جولة في معركة، وليست فشلا عاما يصيب المنظومة بمختلف تشكلاتها، ما يجعل عملية الترميم كالنفخ في الخطب المبتل، ذلك لان الخسارة الحقيقية في كل المعارك السياسية حسب تقديرنا، هي الخسارة التي تحيل على التفكك والشلل العام، وارتجاج الثقة في القدرة على النهوض والاستنهاض من جديد، فالمهزوم حسب تصورنا ليس من خسر معركة، ولكن هو الذي خسر التجدد والتجديد، كما يمكن للغالب أن يجعل من النصر هزيمة، إذا ما بالغ في الهذيان الاستعراضي لمنطق العسكرة، على حساب الحكمة والرصانة السياسية، والاستخفاف بالمغلوب والمبالغة في الاعتداد بالنفس، وعدم مراعاة المشاعر الإنسانية، وأ خطر من كل ذلك هو السقوط في منطق الانتقام المجاني، والحقد الاستعراضي الذي قد ينتج ردود أفعال متحررة من كل الضوابط تكون ربما كارثية النتائج…

هذا إذا أسلمنا جدلا أو افتراضا، أن المعركة السياسية في تونس، كانت حربا بالمفهوم العسكري، بين جيوش نظامية، أو بين عسكر ومتمردين مسلحين، غير أن الواقع التونسي، يختلف تماما عن كل هذه الفرضيات، ليبقى المشهد عاريا أمام حرب مكشوفة الأضلع، بين نظام مسلح ضد فصيل من رعاياه، يحملون نفس الانتماء للأرض ونفس الجنسية ونفس اللغة ونفس الملامح البيولوجية، ويختلفون معه في التوجهات، فكانت النتائج كارثية لفئة المجتمع المخالفة، وسقوط أخلاقي وقيمي مريع، لنظام مقنّع بخطاب المدنية والديمقراطية والتغيير والشرعية الشعبية…

إختلاق مناطق توتر

إن اللافت للنظر في هذه الحرب العبثية، من حيث امتدادها وتمدّدها على أكثر من جبهة، تجاوزت المكوّن السياسي المعتاد، لتتحول إلى صدام مع المكوّن الاجتماعي والحضاري، وحربا ضد نصوص القوانين، وضد بنود الدستور، مما ظهر جليا حالة التخبط والعشوائية، في ابتداع خنادق مفتعلة، لمحاولة استعادة البريق الأمني، الذي اعترته بعض الشقوق نتيجة للثغرات السياسية، التي مكنت بعض الأصوات من التجرأ على عصيان “السيستيم “، ما يرجّ الصورة القائلة بأن تونس مثالا يحتذى، وأنها قلعة محصّنة ضد انفلونزا الخطاب الأصولي، مما يفسّر الاجتهاد الأمني في الضرب في كل المناطق، بما فيها المحصنة بالمقدّس، لتتحول الحرب إلى صدام ضد هوية المجتمع، ابتداء بالتجرأ على المصحف الشريف ومرورا بمحاربة الحجاب، وتواصلا مستقبلا في ابتداع تشريعات أخرى، قد تكون أكثر استباحة للمقدّس وتجرأ على العقيدة..

القبعات الأمنية تحتكر السياسي

إن الوضع السياسي بقي متقوقعا في الخنادق الأمنية، الموصوفة والمقنعة والمعلنة، والتي رغم تمططها وتفرعنها، لم تنجح في تفكيك الخصوم السياسيين، بل ساهمت في إحداث جدار فاصل بين الشعب والسلطة، التي تجتهد في إظهار الالتفاف الشعبي، عبر جملة القرارات الوردية، أو العزف الإعلامي، من خلال المحطات الانتخابية أو المناسبات السياسية، إلا أن هذا الرصيد الشعبي، بقي رصيدا اصطناعيا يضمر ما لا يظهر، ينتقض إيحاءا عبر التشكي والتظلم، ولا يبوح علنا عن حقيقة التذمر، من تفشي ظواهر المحسوبية العلنية، والرشوة وسوء التصرف، والجرائم الأخلاقية البشعة، وبروز كتل اقتصادية غير منضبطة، وظهور ليبيرالية اقتصادية متوحشة، ما يجعل المواطن فريسة تجتمع على نهشه كل هذه الدوائر وكل الظواهر ما ظهر منها وما خفي…

ماذا ستخسر السلطة؟

ونصل إلى القول، أن منطق الحكمة السياسية يقتضي الانتباه إلى اتجاه رياح التغيير، التي تهبّ إقليميا ودوليا على المناخ السياسي العام، حتى لا تبقى تونس استثناء، تصرّ على استنشاق رياح السموم، بدل الأكسجين النقي، الذي يزيل كربون التلوث السياسي والاجتماعي، وحتى لا تبقى تونس خارج التحولات المغاربية وعلى رأسها الجزائر، التي رغم أنهار الدم المنسكبة خلال سنوات حوار البنادق، اختارت الوئام الوطني من أجل فك الاشتباك، وحقن الأحقاد..

فماذا يضرّ السلطة التونسية، إن هي أغلقت نهائيا ملف مساجين الرأي، وممّا الخوف والتحسّب، وكل هذه الحيطة، التي لا مبررات أمنية ولا واقعية لها، ولماذا كل هذا النفخ في مزامير القش والتبن، بدعوى الوقاية والحماية ضد طيف سياسي، لم تنزل قواعده ميدانيا للرد على عنف السلطة، وهم في ريعان الشباب، فكيف وهم في وضعهم الآن، بعدما خربت السجون والمعتقلات أجسادهم، وأكلت السنين أعمارهم.. إن هذا الوضع المؤلم لجزء من أبناء شعب تونس، الذين أقلهم رتبة في السلم الاجتماعي مدرّس ابتدائي، دون ذكر العديد من الكفاءات الأخرى، في اختصاصات علمية وفكرية مهمة ومتنوعة، الذين كان يمكن أن يساهموا في المشاركة البناءة للبلد، نراهم مدفونين أحياء في السجون منذ سنين وأعوام، ما يجعل الكل سلطة ومعارضة ومجتمع، وجها لوجه أمام المسؤولية الأخلاقية والتاريخية، للوقوف ضد هذه الحرب، التي ابتدأت بمعركة بيانات، لتنتهي إلى حرب استنزاف، فالسلطة في تقديرنا تملك مفاتيح

غلق ” الغرف المظلمة ” من تاريخ تونس الرمادي، وذلك بمعالجة ملف المساجين معالجة جدية، وفتح أفق سياسي رحب، يستوعب الجميع دون استثناء، بما فيهم المهجّرون الموزّعون في دول العالم، والذين اكتسبوا اختصاصات وخبرات عالية في مجالات متعددة، لكي يشعّوا على البلاد، بدل أن يشعّوا على الآخرين..

[1] قاعدة كيمياية تقول بأن الإحتكاك يولد الحرارة

[2] بيت من قصيدة لأبي القاسم الشابي بعنوان إلى طغاة العالم

[3] انظر مقال قراءة غير صامتة في طروحات الدكتور عبد اللطيف المكّي للطاهر العبيدي تونس نيوز
1 – 9 – 2003 وموقع مجلة العصر 3 – 9 – 2003 وموقع الوحدة الإسلامية 9 – 9 – 2003

[4] راجع حوار إذاعة البحر الأبيض المتوسط مع عبد اللطيف المكي المنقول على

تونس نيوز 24- 9 -2003 وموقع الوحدة التونسية 26 – 9 – 2003

[5] راجع مقال أيوب الصابر تونس: الوهم.. الواقع والمخارج تونس نيوز 8 -10 – 2003