تعقيب على مقال د. خالد الطراولي: “المشروع الإسلامي التّونسي وحسم الصّراع

بقلم أشرف زيد

لا يختلف اثنان على وجه هذه البسيطة حول ماهيّة “المجتمعات المتحضّرة والواعية بدورها الإنساني والحضاري”، وبأن “لا سلطة مدنيّة بدون صراع سلمي ومدني”، وبأن “لا عيب في أن يطمح الفرد والمجموعة إلى الحصول على التمكين الأعظم حتّى يطرح برنامجه وينزّل رؤيته ويقود البلاد والعباد إلى شاطئ السلامة والرقي!” ولكن ماذا يعني هذا الكلام – المفعم بالتورية وبالتلطيف – وما هي قيمته إذا كان الإطار عربيّا، أو “أفضل” من ذلك، تونسيّا؟ هذا الإطار الّذي وصفه كاتب المقال “بالمشوّش”، و بالأحاديّة الشّاملة، وبغياب “الفعل والمبادرة الصائبة عند الحاكم والمحكوم”، ممّا يؤدّي بالجميع إلى “متاهات العبثيّة والترهّل والحكم الغير المسؤول وغير الرّاشد!” وهلمّا جرّا من العبارات الحالمة والمتّصلة بالحقل المعجمي لمفهوم “الإصلاح”.

و”الإصلاح” هذا، يُعتبر – حتّى وإن امتطى صهوة التجديد – السّمة الأساسيّة للبؤس السيّاسي الذي ساد ويسود بلاد العرب عامّة وخضراءنا خاصّة، ومنذ عقود. وهاهو الدكتور خالد الطراولي يبشّر به من جديد، ولا يرى بديلا غيره “للمشروع السياسي ذو المرجعيّة الإسلاميّة”… هذا المشروع “المغيّب والمهمّش” في “ظلّ هذا الإطار غير السليم والعبثي” (أتمثّل هنا ابتسامة شهداؤنا من أمثال عبد الرؤوف العريبي وفيصل بركات وغيرهما كثير، وكذلك سجناء برج الرومي وبقيّة أبراج القهر عند سماعهم للفظي “غير سليم” و”عبثي” في وصف جحيم بن علي الأرضي!)

ثمّ إنّ صاحب المقال يتساءل: “هل من صالح المشروع السياسي ذو المرجعيّة الإسلاميّة، حسم الصراع الآن؟”… و”حسم الصراع” يعتبر كلام كبير، خطيرة معانيه. ولكن سرعان ما يأتي التسّاؤل الموالي، ليحدّد مغازي الألفاظ، ولتلد الفيَلة فئرانا! فلا حسم ولا صراع ولا هم يحزنون. كلّ ما في الأمر- “ومصلحة البلاد اليوم، تستوجب ذلك” – هو عدم “تنزيل وتبنّي الورقة الإسلاميّة، تبني مشاعر وعاطفة وردّ فعل، دون مراحل وتدرّج واستشراف واستقراء وعقل؟” وهذا أيضا من الكلام الموزون والمعقول. بل من المعلوم من الدين بالضرورة… عيبه الوحيد أنّه من العموميّات التي لا تأتي بجديد ملموس.

ويتوخى الكاتب نفس السياق حينما يضيف، وبزئبقيّة مفرطة، بأنّ “الصراع الذي يلفّ الأنظمة بالمشروع الإسلامي، ليس صراع لحظة وموقع، ولكنّه صراع حضاري سلمي مدني (…) وليست الحركة الإسلاميّة في عجلة في حسمه بأيّ ثمن، فالتّاريخ والحاضر والمستقبل يعملون في صالحها إذا وعت دورها وتدرّجت في أهدافها، وصبرت وصابرت على الاستفزازات وتجنّبت ردّات الأفعال”. فمن حيث كون الصراع حضاري، فهذا معلوم وداخل في باب العقيدة، أي الإستراتيجيا، أمّا من حيث كونه سلمي ومدني، فهذا من أبواب فقه المعاملات، أي التكتيك. من منّا… منْ من الإسلاميين لا يرغب في أن يكون الصراع سلمي ومدني؟ لا أحد. ما الذي دفع ويدفع بالعديد من الحركات إلى توخي سبل القتال؟ هل فتحت أمام النّاس، بما فيهم شديدوا الاعتدال، أبوابا أخرى للتغيير “الحضاري السلمي المدني” غير أبواب السجون والمعتقلات؟ ثمّ ماذا تعني كلمات “حضاري، سلمي، ومدني” عند القائمين على الدكتاتوريّات العربيّة وعلى رأسهم (أو على ذيلهم) بن علي؟

ويستطرد الكاتب في نفس السياق ولكن على نغمة الخطب الجمعيّة طراز العهد الجديد، فيذكر الوضع العالمي وما يشوبه من “توجّس” تجاه الحركة الإسلاميّة و بأن هذا التوجس “ليس مبنيّا على عداء مطلق ودائم” بل إنّه نابع من “تراكمات ساهم فيها الآخر بنصيب، وساهمت الحركة الإسلاميّة بنصيبها”… وأتذكر هنا كيف توضع تحت الخانة نفسها: “العنف المتبادل”، رمي الحجارة من قبل أطفال غزّة والقصف المدفعي المركز من قبل قوات الإحتلال الصهيونيّة! ويطلعنا الدكتور على “الحالة الجديدة” والتي تتلخص في “قبول افتراضي من قبل أصحاب البيت الأبيض للإسلام المعتدل داخل المشهد السياسي” مما “يمثل منعرجا جديدا وهامّا” ولذلك وجب على الإسلاميين توضيح المناطق الرماديّة في خطابهم… “عندئذ يمكن لهذا المشروع أن يثبت أقدامه ويركزّ خطواته ولا يتعجّل أمره، ويكون في مساره غير المتسرّع و لا الكاسح، مصيرا هادئا ونافعا للبلاد والعباد وللإنسانيّة جمعاء”… ورجعت إلى البيت فرحا مسرورا! أليس ما يجري في العراق اليوم دليل وجيه على نجاح هذا المسار: فبعض التيّارات الإسلاميّة بادرت إلى “توضيح المناطق الرماديّة”، فأدّى بها هذا “التّوضيح” إلى قبول واقع الإحتلال، والرضا بأقذر الأدوار، (تسيير حكومة عميلة، ومعادية لمصلحة شعبها وأمّتها). هل هذا هو التّمكين الأعظم، الذي يبشّر به الدكتور؟ ما الذي يريده صاحب المقال بالضبط؟ أن نجمّل أنفسنا حتّى نروق في أعين “أصحاب البيت الأبيض”، وأن لا نشارك في انتخابات ما، إذا كنّا سنفوز فيها فوزا كاسحا، وأن لا نتعجّل الأمر، فنترك آلاف المساجين قابعين داخل قاعات انتظار الموت البطيء، وآلاف المفصولين عن وظائفهم على أرصفة التسوّل… ما هذه الملائكيّة وما هذا الهراء؟ وبقطع النظر عن مساجيننا وعن المفصولين عن عملهم… أنصمت عن النهب المنظم لموارد بلادنا من قبل عصبة من العائلات المافياويّة؟ أنترك لهذه المافيا مسخ هويّة وثقافة أجيال بأسرها؟ لقد أحدث عقد ونيف من حكم عصابة العهد الجديد لتونسنا ما لم يقدر على فعله الإستعمار الفرنسي ولا حتّى بورقيبة من تدمير لهويّة الشعب التونسي ولذكائه ونباهته… حتّى بات جلّ شبّاننا وشابّاتنا لا يتصوّرون الحياة إلاّ من خلال فيديو-كليب لنانسي عجرم أو لهيفاء وهبي!

ثمّ إنّ د. الطراولي يلمّح إلى ظاهرة “العودة المباركة التي تشهدها البلاد إلى رحاب الدّين والتّديّن ولو في جانبه الشعائري” وفي هذا لا أختلف مع الدكتور في أنّ الظاهرة لا تخلو في حدّ ذاتها من الإيجابيّة، إذ أنّها تعكس الفشل النسبي لمخططات نظام العهد الجديد الرامية إلى صرف الشباب وغيرهم عن ارتياد المساجد وعن التفكير أصلا في الآخرة. ولكن أرى من اللازم الوقوف على هذه الظاهرة لتمحّصها وسبر أغوارها، لا “لإستغلالها أو توظيفها أو تبنيها”، ولكن لترشيدها وللحيل دون استغلالها من قبل الأنظمة القائمة ومن ورائها “أصحاب البيت الأبيض”… فلطالما حلم هؤلاء وأولئك بإقامة ما أسماه سيّد قطب “إسلام أمريكاني”… إسلام تمتزج فيه الروحانيّات بالنفط وبالدولارات وترفرف في سمائه، شامخة، راية الرأسماليّة! لقد ساهمت الفضائيات، ولا سيّما قناة “اقرأ”، في إذكاء هذه الظّاهرة. وقناة “اقرأ” هذه، تنتمي إلى نفس الشركة التي تبث كليبات نانسي عجرم، وستار أكاديمي وتفاهات أخرى يلتقي فيها المال الخليجي بفتيات السليكون اللّبنانيّات بصناعة الأنغام المصريّة! ألا يوجد شبه محيّر بين ظاهرة la télé évangélisation المنتشرة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وبعض برامج قناة “اقرأ”: خطيب محاضر في زيّ أنيق، وجمهور من المتفرّجين مفعم بالشباب وبالأناقة، وخشوع ودموع على الهواء مباشرة!

ألا يعلم الدكتور بأنّ ما يزعج “أصحاب البيت الأبيض” أكثر من كلّ شيء هو كون التيّار الإسلامي يشكّل اليوم، من حيث الخطاب ومن حيث الثقافة، آخر معقل جاد لمناهضة العولمة ما بعد الرأسماليّة؟ هذه حقيقة لا بدّ من استيعابها وهضمها من قبل الحركات الإسلاميّة قاطبة، فيسهل عندها تحديد طبائع الصراع وآليّاته، ويتيسّر أيضا تمييز العدوّ من الصديق وتَبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود! وبهذا تخرج الحركة الإسلاميّة، في صراعها ضدّ أنظمة الاستبداد، من دائرة “القطبيّة القديمة” لتصبح رأس حربة الشعوب الطّامحة للتحرر ولاسترداد الكرامة المفقودة.

أنّ الخطر الذي يوشك أن يعصف بالحركات الإسلاميّة اليوم، بالإضافة إلى ما ذكرنا من خلط وتخبّط في المفاهيم، هو خطر ديموغرافي… أجل! لقد بدأت هذه الحركات تصاب بداء الشيخوخة وما يتبعها من عقم ménopause فصارت تخاطب النّاس بلهجة المتقاعدين… بل إنّ خطابها – ومقال الدكتور مثال صارخ لهذا الخطاب – بات موجّها إلى المتقاعدين من محترفي السياسة، بعد أن كان موجّها إلى قطاعات عريضة من تلاميذ المعاهد الثانويّة والجامعات… هؤلاء الفتيان والفتيات هم الذين نشروا – وبحيويّة خارقة – الظاهرة الإسلاميّة وفرضوا وجودها داخل العائلات التونسيّة وفي دور الشباب وفي النوادي وفي كلّ مكان… هؤلاء الفتيان والفتيات هم الذين حملوا مبادئ وشعارات الحركة الإسلاميّة في المظاهرات والتحرّكات الاحتجاجية. وهذا ليس بالغريب ولا بالجديد، فكلّ وقائع التّاريخ تدلل على أنّ تغيير المجتمعات يقوم على الشباب. كم كان معدّل العمر للمجموعة التي وضعت صحبة الرسول (ص) أُسس صرح الإسلام العظيم؟ كم كان معدّل العمر لمن قاموا بالثورة الفرنسيّة وكذلك بالثورة الكوبيّة؟ في كلّ الحالات دون الثلاثين!