يافطة لمساندة القضاة الإصلاحيين قام بتصميمها المدونون المصريون و عرضوها على الأنترنت قصد التحميل و الطباعة.


السلطة الشمولية أمام تحدي استقلال القضاء:

تونس ومصر نموذجا

إعتصم القضاة في مصر بنادي القضاة بالقاهرة كآخر شكل من أشكال الاحتجاج، كما يعتصم المحامون بدار المحاماة بتونس بعد أن تجاوزت السلطة كل الحدود في عدم إقامة أي اعتبار لشأنهم. لقد تنامى دور السلطة القضائية في البلدين بعد انحسار الأمل في قيام سلطة تشريعية حقيقية، حسب رأي المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان المختار اليحياوي.

في الوقت الذي يعتصم فيه القضاة في مصر بنادي القضاة بالقاهرة كآخر شكل من أشكال الاحتجاج المتبقية لهم للفت النظر إلى ما يتهدد وجودهم، يعتصم المحامون بدار المحاماة بتونس بعد أن تجاوزت السلطة كل الحدود في عدم إقامة أي اعتبار لشأنهم. والملفت للنظر ليس هذا التزامن في حد ذاته ولكن ما يمثله نادي القضاة في مصر والهيئة الوطنية للمحامين من علامات منيرة في عصر الهوان الشامل الذي يمر به كل من بلديهما.

فالمؤسستان تختزنان تاريخا حافلا بدأ قبل بداية الدولة الوطنية نفسها وعاصرا حكم الإطلاق في عهد الملوك وصمدا في وجه الاستعمار واستطاعا أن يحافظا على كيانيهما على مدى أكثر من نصف قرن من غوغائية وتقلبات المستبدين في عهد الاستقلال دون أن يمنعهم ذلك من نحت الصورة المهيبة التي يحضون بها اليوم في بلديهما.

فما الذي حصل اليوم حتى يضرب عليهم مثل هذا الحصار ولماذا هذه الأعداد الضخمة من فيالق الأمن المدججين بالسلاح التي ترابط ليلا نهارا على كل المنافذ المؤدية لمقرات اعتصامهم ولماذا ينتشر رجال المخابرات والبوليس السري في كل مكان حولهم ولماذا يترك كبار المسؤولين الأمنيين مشاغلهم ويقضون الأيام والليالي على قارعة الطريق أمامهم وماذا يراقبون؟

إحباط القضاة

الغريب في ما يحصل ليس ما تؤشر إليه هذه الحالة من تجاذب مشروع بين السلطات وتنازع عن الاختصاصات والصلاحيات، ولكن الغريب حقا أن يجد رجال القانون من قضاة ومحامين أنفسهم في مواجهة فيالق البوليس والمخابرات فيسحلون ويضربون ويهانون بمقتضى التعليمات وتطبق عليهم إجراءات الطوارئ ومكافحة الإرهاب. فلا يجد القاضي الذي كرس حياته لإنصاف المظلومين من يدافع عليه في محاكمته ولا يجد المحامي الذي نذر حياته للدفاع عن المضطهدين من ينظر في قضيته.

الحقيقة أن الصورة واضحة ولا تحتاج حتى إلى مجرد تعليق. بل أنها صورة فاضحة لانقلاب الموازين وتكشف مواجهة سلطة العنف لحكم القانون.

يقول د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة: “إن الدور الذي يلعبه نادي القضاة على المسرح السياسي في مصر الآن رغم إرادته يشبه إلى حد كبير الدور الذي لعبه نادي الضباط في حياة مصر السياسية قبيل اندلاع ثورة 1952.”
وفي تونس لا يقل الموقع الذي تحتله المحاماة اليوم عن دورها في أحلك الفترات التي مرت على هذه البلاد في عصر الاستعمار حيث أنجبت أغلب رجال دولة الاستقلال بعد أن تبوؤوا مقدمة النضال ضد الاستعمار.

الأحداث الجارية في مصر هذه الأيام بالغة الدلالة على عمق التحول في طبيعة الصراع على السلطة هناك، حيث اضطر الرئيس حسني مبارك إلى تقديم القاضيين مكي وبسطويسي إلى المحاكة التأديبية على خلفية تصريحاتهما بخصوص عمليات التزوير التي شهدتها الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أشرفا على مراقبتها.

وعوض أن ترهب هذه المحاكمة القضاة في مصر زادت من حدة المواجهة القائمة بينهم وبين السلطة حول مطلبهم المزمن في إصدار التشريعات اللازمة لضمان استقلال السلطة القضائية عن بقية السلطات باعتباره الضمانة الوحيدة الكفيلة بتحصينهم من مثل هذه المحاكمات وتمكينهم من القيام بدورهم بعيدا عن كل الضغوط و التهديدات.

موقف القضاة التونسيين

وبينما يتواصل الاعتصام الذي قرره نادي القضاة بناديهم للأسبوع الرابع على التوالي كشفت الولايات المتحدة خبر الزيارة غير المعلنة التي كان يجريها جمال نجل الرئيس حسني مبارك هناك ومقابلته للرئيس الأمريكي جورج بوش وكبار مسؤولي الحكومة الأمريكية وهو الذي لا يحمل أي صفة تخوله تمثيل السلطة الرسمية المصرية مما أعاد قضية التوريث إلى واجهة الاهتمامات.

تبدو هذه الخلفية التي تتفاعل من خلالها الحالة المصرية شبيهة إلى حد التطابق مع تفاعلات الأوضاع في الحالة التونسية حيث يتواصل في نفس الوقت الاعتصام الذي دعت إليه الهيئة الوطنية للمحامين بدار المحامي المواجهة لقصر العدالة بتونس احتجاجا على تشريع يهدد كيانهم بعد أن قامت السلطة بإحكام قبضتها على القضاة بافتكاك مقر جمعية القضاة التونسيين وسلمته لهيئة شكلية من أنصارها إثر تصاعد الاحتجاجات بين القضاة للمطالبة بإصدار التشريعات اللازمة لضمان استقلال السلطة القضائية عن بقية السلطات باعتباره الضمانة الوحيدة الكفيلة بتحصينهم من كل الضغوط والتهديدات و تمكينهم من التفرغ بكل استقلالية للقيام بدورهم.

لقد تنامى دور السلطة القضائية في البلدين بعد انحسار الأمل في قيام سلطة تشريعية حقيقية وتحول برلمانات البلدين لمجرد غرف تسجيل لما تمليه عليها السلطة التنفيذية التي لم تعد تخفي طابعها الاستبدادي ونزعتها الشمولية.

ومع أن حكام البلدين يخصصان خمس أعضاء البرلمان للمعارضة للتباهي بمظهر التعددية أمام الضغوط الغربية فإن التعامل مع المعارضة يتم أساسا بطريقة أمنية تمنعها فعليا من كل مشاركة فعلية في الحياة السياسية.

فنواب المعارضة في البرلمان المصري جلهم مستقلون وينتمون لحركة الإخوان المسلمين المحظورة بينما عجزت بقية الأحزاب المسموح لها بالتواجد بصفة قانونية عن الظفر بأي تمثيلية ذات اعتبار.

تنازلات المعارضة التقليدية

وفي تونس يخصص خمس أعضاء البرلمان للمعارضة بحكم القانون رغم أنها لا تتجاوز في مجموع الأصوات التي تتحصل عليها جميعا الخمسة بالمائة من مجموع أصوات الناخبين وتمكن الطريقة التي تجرى بها السلطة عملية الانتخاب من اختيارها أيضا للنواب المحسوبين على المعارضة من بين أعضاء الأحزاب الأقرب إليها.

و قد تأكد تآكل المعارضة التقليدية وإهتراء إشعاعها بفعل التنازلات للتلاؤم مع منظومة الاستبداد الماسكة للسلطة في كلا البلدين بمناسبة طرح قضية التجديد للرئيسين حسني مبارك وزين العابدين بن علي في الفترة الأخيرة الماضية بعد استيفائها للمدة التي يخولها لهما الدستور.

فالرجلان من خريجي المؤسسة العسكرية وحصلا على موقعهما السياسي بفضل الخدمات الأمنية التي قدماها لسلفهما ووجدا نفسيهما فجأة وفي ظروف استثنائية في موقع القرار فمارسا السلطة بالطريقة الوحيدة التي يتقنانها مدفوعين إلى ذلك بأوضاع لم تخلو من التقلبات زادت في تركيز سلطة القرار بين يديهما.

وقد أفقدتها هذه الوضعية ثقة الطبقات الشعبية التي تمثل أغلب السكان حتى أصبحت لا ترى فيها سوى صنوا للحكم لا كأدوات تغييره وفضلت الإنسحاب من كل مشاركة سياسية إن لم تغذ الأمل في صدق وطهارة المحسوبين على التيارات الدينية.

اليوم بعد أن تجاوز الرئيسان سن السبعين وأصبحا يرمزان للحكم مدى الحياة وانكسرت مقومات بقية السلطات تحت وطأة السلطة الأمنية الوحيدة القائمة حاليا في مصر وتونس والطاغية على كل المجالات لا يبدو أن الوضع مؤهل لإفراز أداة تحول ذات مصداقية ما لم ترفع حالة الترهيب المتبعة في مواجهة أبسط الاحتجاجات.

وتبرز هذه الحالة انفصام في علاقة المنظومة السياسية بالمجتمع في كلا البلدين في وقت هما في أشد الحاجة فيه إلى نخب سياسية ناضجة تحمل رؤى قادرة على مواجهة تحدي التحول إلى أنظمة حكم ديمقراطية غبنت دونها تطلعات مجتمعاتها.

ولا شك أن مشاهد الاستعراض المفرط للقوة من قبيل ما يحصل أمام نادي القضاة في مصر أو دار المحاماة في تونس لن يزيد المناضلين إلا إصرارا على عدالة مطالبهم ولكنه لن يسمح حتما بخلق المناخ اللازم لإرساء ثقافة الحوار والتسامح الكفيلة وحدها بإنضاج النخب السياسية الضرورية لتجاوز المرحلة الحالية.

ولعل هذه الأوضاع هي التي تحمل الحقوقيين من قضاة ومحامين في تونس ومصر اليوم المسؤولية التاريخية في بناء قواعد مرجعية للعبة السياسية، وهي قواعد لا يمكن أن يكون لها تأثير ما لم تتلازم مع إعلاء حكم القانون.

معركة استقلال القضاء في الوطن العربي عامة هي البوابة الحقيقية للحداثة والإصلاح لأنها المعركة التي ستربطنا بصفة عضوية بفضاء الحرية وهي صميم الإصلاح ولبه الذي ينتظر دعمه في المرحلة الحالية و يجعل مستقبل الأوضاع في البلدين رهين التعامل مع هذه القضية.

إذ كيف يستوي الحال و العود أعوج؟ أليس العدل أساس العمران؟

المختار اليحياوي

المصدر : موقع قنطرة 2006

المختار اليحياوي،قاضي تونسي، أحيل من منصبه كقاضي في ديسمبر/كانون الأول 2001 بعدما دعا، في رسالة مفتوحة وجهها إلى الرئيس بن علي، إلى احترام المبدأ الدستوري لاستقلالية القضاء، اليحياوي مدير المركز التونسي لاستقلال القضاء والمحاماة.