بقلم د. خالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

الجزء الثالث : هجرة الحبشة والنموذج المنشود

بالرغم من أن هجرة الصحابة الأوائل إلى الحبشة لم تكن هجرة استقرار وتوطين، غير أنها وقعت في ظل أوضاع محيطة إقليمية وجهوية وداخلية ونفسية تشبه في الكثير منها أحوال المسلمين في هذا الزمان، حيث كانت حال الاستضعاف و العسر والغربة والتهجير واللجوء التي عاشها المسلمون الأوائل تماثل نسبيا ما يعيشها أحفادهم اليوم، من ديار غادروها لم يسعدوا بجوارها إلى أرض فيها بقية من عدل وصدق. “فلما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية لمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه” [1]. ورغم أن كتب السيرة لم تتوقف كثيرا عند السنوات الطوال التي قضاها هؤلاء الصحابة ضيوفا لدى ملك الحبشة، غير أنها أثبتت بعض الدروس والمغازي التي لم تستنفد أغراضها، والتي يمكن أن تمثل نبراسا في طريق التعامل الرصين والواعي والرشيد بين المهاجر وبلاد الهجرة.

كل امرىء من عباد الله مضطهد * * * * * ببطن مكة مقهـور ومفتــون

أنا وجــدنا بلاد الله واسعــة * * * * * تنجي من الذل والمخزاة والهون

كانت اللقطات الأولى لهذا اللقاء التاريخي بين المهاجر المستضعف في دينه والفار بحريته والمكبل بانتماءاته، وبين المجتمع الجديد الممثل في طبقته العليا وحكامه، أول المشاهد المعبرة والمحددة لهذه العلاقة، فإما قبول وسماح بالتواجد والاستقرار، أو رفض ومنع وطرد. فكان الخطاب الأول مصيريا، وكان هذا اللقاء محدّدا للبقاء أو العودة، لذلك وقع اعتماد الأكفأ والأنسب والأصلح حملة ومضمونا لإيصال هذا الخطاب، فتكفل جعفر بن أبي طالب بالرد.

1/ وضوح الخطاب والثقة في النفس، وعدم اعتماد الظاهر والباطن، وترك الخطاب المزدوج، فلا خطاب للداخل وآخر للخارج ولكن مبدئية وشفافية حتى تُبنى العلاقة على أساس من الثقة والأمانة والاحترام المتبادل “ثم أرسل (النجاشي) إلى أصحاب رسول الله (ص) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا :نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن” [2]

2/ الأخلاق العالية نظرا وممارسة التي حملها المسلمون في خطابهم الأول، من ورفعة وتواضع وشجاعة وتركيز على البعد القيمي والفضيلة والحرية والعدل التي يحملها مشروعهم الفارين به، وترك لما سواه من رذائل وفحش وظلم : :”أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف…حتى بعث الله إلينا رسولا منا… وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات… ” [3].

3/ حسن العرض والمنهجية السليمة والرقيقة في تقديم الخطاب، فقد اختار جعفر سورة مريم وما بها من رقة ومشاعر ولطف في قصة مريم والمسيح عليه السلام، حتى بكى النجاشي واخضلّت لحيته وبكى أساقفته حتى اخضلّوا مصاحفهم.

4/ فن العلاقات العامة وإتقان اللطف في المعاملة، واحترام منازل الرجال ودرجاتهم “فلما قهرونا وظلموا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلَم عندك أيها الملك” [4].

5/ قوة الإقناع وقبول الحوار والمناظرة مع الخصم والصديق على السواء.

6/ المشاركة في معايشة هموم البلاد وأحداثها بالقدر المسموح به، والمساعدة على نصرتها ونجاحها بالوسائل المتاحة ولو بالدعاء. فقد نزل أحد الرجال ينازع ملك النجاشي ووقعت بينهما معركة فاصلة، لم تسمح للمسلمين المشاركة المباشرة فيها مع جيش الملك غير أن الجميع بقوا يتابعون الأمر بوجس وخيفة على النجاشي وأقاموا الأدعية لنصرته ” فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده..فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير وهو يسعى فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي، وأهلك عدوه، ومكّن له في بلاده…فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها” [5].

7/ سعة الصدر والقبول بالاختلاف بين أصحاب الخطاب وعدم التعرض لمن انزوى برأي ولو كان في المعتقد والدين نفسه. فقد تنصر عبيد الله بن جحش بعد أن كان مسلما لما قدم أرض الحبشة، فكان إذا مر بالمسلمين يقول: فقّحنا وصأصأتم، أي قد أبصرنا ولم تبصروا بعد. فلم تقع بينهم مشادات ولا تكفير ولا مضايقات وهو ما لم تذكره السيرة.

8/ التدرج في المكاسب والرضاء بالنتائج القليلة في إطار من الانسجام الجماعي، والاستقرار والنجاح للبلاد وأهلها وعدم القفز على الواقع والقبول بالعمل في نطاق المسموح والمناسب، حتى لا يقع المحظور من رجّ عنيف وردّ أعنف منه، فينهزم المشروع وذووه، ويخيب المسعى. فقد أسلم النجاشي وأعلم بذلك صحابة الرسول (ص) وأخفى إسلامه على قومه، خوفا من بطشهم له ومعرفته لهم بشدتهم ورفضهم استبدال دينهم. ولم يسع المسلمون إلى تجاوز هذا الخط واكتفوا بهذا النجاح البسيط، واحترموا الرجل ومواقفه، ولم يدفعوه إلى إظهار دينه والدخول في مواجهة يمكن أن تلحق الأذى به وبالبلاد والعباد وبالمسلمين أيضا.

ختاما

إن هذا الخطاب الإنساني ذو التوجه الإسلامي في الغرب، يبقى نجاحه رهين حملته وأعضائه، ولا يبقى حبيس النظرية والإنشاء، ولكن يجب أن يتمثل في ممارسة واعية ورشيدة، يدخل الأسواق والمتاجر، ويستأنس داخل البيوت والغرف، ويشعّ عبر سلوكيات حضارية في المدرسة والطريق والنوادي، حتى لا يكون النموذج النظري في واد وممارساتنا في واد آخر فنخسر على المستويين، نظر فيه نظر، وفعل عليه حجر وتوجس وعداء. ولعل من تأويلات الأثر المشهور عن رسول الله (ص) “أن الدين سيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء”، أن مصطلح الغريب يكون من الغرابة، وهو ما سوف يلقاه هذا الخطاب عند غير بني ذويه. والغرابة محطة نفسية وثقافية يليها إحدى المسارين، إما تفهم وقبول وحتى تبني، أو رفض ومواجهة وعدوان، فإما الطوبى أو الخسران، وهذا يبقى رهين منهجيتنا في التعامل، وطريقة عرضنا لمشروعنا، ومدى وعينا بأمسنا ويومنا ومستقبلنا. كانت هجرة يوسف عليه السلام مثالا حيا للهجرة السليمة والاستقرار المفيد والمستفيد، من بدوي في الصحراء إلى حافظ لخزائن البلاد في الحضر، أحسن إلى قومه وعمل للصالح العام، فخدم مشروعه الإنساني وأفاد وطنه ومجتمعه وذويه.

1 | 2 | 3

[1] ابن هشام “السيرة النبوية” المجلد الأول، دار الفكر دمشق، 1994، ص:272.

[2] مرجع سابق، ص:275.

[3] المرجع السابق ص:285.

[4] المرجع السابق ص:286.

[5] المرجع السابق ص:287.