1) بين يزي…فك و كفاية المصرية.



2) من نقل الخبر إلى صنع الحدث الإعلامي.


3) مقاربة “يزي” بين الوسيلة و الهدف.

3) مقاربة “يزي” بين الوسيلة و الهدف.

إختصرت المعارضة التونسية الحقيقية أساليب عملها ، تحت وطئ القبضة الحديدية التي تجعل من كل حياة سياسية مجرد مسرحية فارغة المضمون، على البيانات المنددة و العرائض المساندة. إذا اشتدّ عودها أضربت عن الطعام. وإذا هان و ضعف أضربت عن الكلام. أما المعارضة الصورية و الغذائية فهي في سعيها الدائب شبه الديني بين صفا المشاركة في المهازل الإنتخابية و مروة الوقوف على الربوة إقتناصا لغنائم دنيا السياسة. و إذا أضفنا الخناق الأمني و التضييق الإعلامي المسلط على المعارضة إلى ضيق أفقها الذاتي و انحباس حراكها في خانة العمل الحقوقي إتضحت لنا صورة هذا الموت السريري الذي طال عهده و الذي جعل من أي مبادرة تريد تحريك مياه المعارضة الراكدة مجرد شاذ لا يُحفظ و لا يُقاس عليه. فبين روتينية اليأس و اليأس المفرط ظهرت مبادرة “يزي” لتقدم ين يدي المعارضة و المجتمع المدني نموذجا جديدا للتعاطي مع الإمكانات المتوفرة و تسخيرها في معركة إعلامية و نفسية من نوع جديد قوامها الخروج من منطق رد الفعل إلى الفعل المنظم أخذا بزمام المبادرة. الشيئ الذي من شأنه أن يجبر النظام التونسي الذي تعود على أن تكون له الكلمة الأولى في معادلة الصراع على الرد الإنفعالي عليها بطريقة تفضح ألاعيبه. مشهد قلب الأدوار هذا له تأثيراته العميقة على مستقبل الصراع مع الدكتاتورية بشرط أن تستمر روح المبادرة الذكية في إنتاج موجات فعل تجبر السلطة على لعب دور المُدافع المُحاصَـر. و يمكننا تلخيص الإستراتيجية التي اتبعتها مبادرة “يزي” في النقاط التالية :

  • إن آلة الخداع الإعلامي و السياسي لنظام بن علي يمكن الإنتصار عليها، لكن ليس عبر ردود أفعال تكون أسبقية المناورة فيها للسلطة بل من خلال أعمال منظمة تعتمد مبدأ الهجوم و المفاجأة و التنوع في توظيف التكنولوجيات الحديثة. و كما قلنا سابقا فإن عدالة أي قضية لا تكفي لتنتصر طالما أن الخطة المتبعة أصلا هي خطة دفاعية مهزومة.
  • لقد علمتنا التجارب الثورية و التغييرية في العالم أن السياسات الإعلامية لكل عمل إحتجاجي ناجح تـُبنى على ركيزتين : ركيزة الإعلام سلبي و ركيزة الإعلام إيجابي. ففي حين تسعى الحملات الإعلامية السلبية إلى فضح و نقد فساد السياسات التي تتبعها السلطة القائمة وتعرية التجاوزات الحاصلة، تسعى الحملات الإعلامية الإيجابية إلى تعبئة الجماهير و توعيتها و إقناعها بضرورة التغيير. و قد إرتكزت سياسة تجربة “يزي” الإعلامية إلى حد الآن على هذين الركيزتين ضاربة عصفورين بحجر إذ في نفس الوقت الذي فضحت فيه أُكذوبة “جمهورية الغد” التونسية نجحت نسبيا في كسر الحواجز النفسية من خوف و حيطة و هاجس أمني و إرادة التقاء عبّرت عنها، من جهة، المشاركات المتزايدة يوميا للوجوه الجديدة الوافدة على عالم السياسة ، الشبابية منها خاصة، و التي باتت تتجرأ على رفع شعار “يزي فك بن علي” مكشوفة الوجه و من جهة إخرى، الوجوه السياسية المعروفة ذي الحساسيات الإديولوحية و السياسية المختلفة.
  • ضرورة التواصل مع العالم الإنجلوسكسوني حيث أن استعمال اللغة الأنجليزية لم يعد أمرا ثانويا بل ملحا هدفه التحرر من هيمنة فرنسا ، لغة و إعلاما و منظمات أهلية، على المشهد السياسي المعارض التونسي. و قد أثبتت التجربة القصيرة ل”يزّي” بأن التغطية الإعلامية الكثيفة التي رافقت المبادرة لم يكن مصدرها المؤسسات و الدوائر الإعلامية الكبرى، الفرنسية منها خاصة، بل نشطاء الشبكة و المواقع و المدونات البديلة الذين خلقوا ديناميكية مستقلة إنتهت بحمل مؤسسات إعلامية كبرى و واحدة من أهم صاقلي الرأي العام الدولي على تغطية الحدث و تخصيص برنامج خاص له (كقناة الجزيرة و موقع القناة الأمريكية س.ن.نCNN ). و بالرغم من أن هذه المؤسسات الإعلامية الكبرى كانت سباقة في نقل الخبر و صقله فأنها لم تكن سوى صدا و امتدادا للحملة التي شهدتها المواقع البديلة و المهتمة بالأنترنت و بالحريات خاصة في العالم الإنجلوسكسون و العربي. إذ لم تحظى مبادرة يزي بتغطية إعلامية تـُذكر داخل الفضاء الفرونكوفوني لأسباب إهمها إرتباط هذا الأخير الوثيق بدوائر صنع الخبر و شبكات المصالح الخاصة الماسكة بأزمّة المجتمع المدني التونسي ذي التقاليد الإستفرادية والعشائرية و الزبائنية. هذا الأسلوب الذي دشنته مبادرة “يزّي” يجب توسيعه ليشمل لغات إخرى تكون جسر تواصل بين نشطاء الأنترنت التونسي و غيرهم من فضاءات لغوية هامة كأمريكا اللاتينية و العالم الآسيوي على سبيل المثال.
  • ليس من المبالغة القول أن إحترام الشكل الذي يختاره كل متظاهر للتعبير عن رأيه و عدم حصر المشاركة في التظاهرة على الوجوه المكشوفة أو المعروفة يعتبر من أطرف مقاربات التعاطي مع حرية التعبير التي تم ابتكارها إلى حد الآن على الأنترنت. و لعلها من أهم الإضافات التي جلبتها “يزّي”. فعلى عكس العرائض التي تدعو الناس للتوقيع على نص تمّ تحريره مسبقا فإن مقاربة “يزّي” لا تكتفي فقط بفتح المجال للمتظاهرين لابتكار أسلوبهم الخاص في التعبير عن رفضهم لحكم بن علي بل تمنحهم فضاء للتواجد ” جسديا” من خلال حضورهم كصورة. فكأني بهم يقولون لبن علي ” ها أنا ذا لأقول لك يزي فك !”.

    وكل من عاب على هذه المبادرة فتحها لمجال يتجلى فيه الخوف، و على حد قول بعضهم [1] الجبن الذي يُمثل قوة الدكتاتورية، نسي أن ” الجثث الهامدة لمن يتباكون مُخفيي الوجه ” قد شجعت أخرى على أن تشارك مكشوفة الوجه. وهو المنحى الذي بدأت تأخذه التظاهرة بحيث أن معدل الوجوه المكشوفة في تزايد مضطرد. هذا المنحى الجديد يجرنا إلى معالجة مسألة في بالغ الأهمية ألا و هي قضية التعاطي مع الخوف.

  • إن الإنتصار على الدكتاتورية يمر عبر الإنتصار على الخوف الذي نجحت في زرعه في قلوب العوام من الناس، إذ بالخوف وحده يحكم الطاغوت. و كما قال الكواكبي فإن “العوام هم قوت المستبد وقوته، بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول” [2] . وهزيمة الخوف لا تتم في يوم أو يومين. إنه مسار يطول و يقصر بحسب قدرة الوسائل المستخدمة و المنهجيات المتبعة على مساعدة الناس على التحرر تدريجيا من عقدة الخوف التي هي بمثابة الإعاقة المانعة للحركة. و كثيرة هي التقنيات المستعملة للتغلب على الخوف ، من الخطاب الحماسي و الثوري الذي يهدف إلى التعبئة العاطفية و شحن الهمم إلى السخرية و الطرافة و النكتة السياسية التي تمسّ هيبة الحاكم وتنهش عرش سيادته رويدا رويدا. فالتجرؤ على إبداء الرأي المخالف و على قول “بن علي يزي … فك” هو بداية مسار قد ينتهي، إذا احتـُرمت قوانينه، بالإنتصار على سياسة التخويف التي هي ركيزة الدكتاتورية الأولى. مسار و نسق هذه العملية التفكيكية لقلاع الخوف التي لم توله أحزاب المعارضة أي اهتمام تنبّهت له مبادرة “يزي” طارقة دربا جديدا من دروب الحرب النفسية ضد الدكتاتورية.
  • التركيز على اسم بن علي و ربط عنوان المبادرة به لم يكن أمرا إعتباطيا بل خيارا قوامه عزل بن علي، الذي يمثل و يختزل السلطة المستبدة، عن من سواه. فصور بن علي المعلقة على جدران أغلب المحلات و الإداراة و كذا صوره و اسمه الذان يملآن يوميا الصحف ونشرات أخبار التلفزة و الإذاعة تمثل عنوان الولاء المجدّد و المكرر له. و إن عملية تحطيم الولاء لهذا الصنم شبه المُؤلّه في نفوس و عقول العوام من الناس لا تتطلب تحليلا و لا تنظيرا للعقلية و للسلوك و للثقافة التي ترعرعت في كنفها آفة التأليه و الولاء الأعمى بقدر ما تتطلب تعويدا على التجرئ على المستبد من خلال الإشارة إليه كمصدر داء. هذا التشخيص الذي لخصته الآية القرآنية ب” إذهب إلى فرعون إنه طغى” يسعى كما قلنا إلى خلق الظروف الملائمة للإستفراد ببن علي عن طريق فصله كأصل للإستبداد عن فروعه من حزب و دولة و أجهزة أمنية و طبقة مستفيدين. و لعل النقد البناء الذي تفضل به الأخ خالد الطراولي في مقاله القيم ” إشارات على طريق مبادرة يزي..فك ” [3] و الذي يرى في ” تشخيص” الخطاب “مراهنة مغلوطة “، يصدق لو منحت المعارضة و قوى المجتمع المدني صكا سياسيا على بياض لمن سيخلف بن علي. أي تكرار الخطأ الذي وقع بعد السابع من نوفمبر و الذي جرّ البلاد مرة أخرى إلى مأساة الإستفراد بالسلطة. إلا أننا لم نصل بعد إلى مرحلة ما بعد التغيير- مرحلة البناء – و لا زلنا في مرحلة “التخريب” السلمي التي تهدف إلى الإستفراد ببن علي تشجيعا لكل من أراد الإصلاح لتونس و لكل من خاطرته فكرة الخروج على الرئيس و التنديد بسياسته الاستبدادية – إن كان من داخل النظام أو من داخل الحزب الحاكم أو من داخل الأجهزة الأمنية -. و لا شك أن نجاح الثورات و التجارب التغييرية في العالم لم يكن ممكنا دون التركيز على ملك أو شاه أو قيصر أو رئيس قـُدّم للناس على أساس أنه رأس المشكل الذي لن يـُحل إلا برحيله.

    صحيح أن رحيل الرئيس أو من يمثل رأس الطغيان ليس باستطاعته أن يضمن نهائيا الإنتصار على الإستبداد و لا على الثقافة التي منحت المجال لصولة المستبد. صحيح أيضا أن نهاية فرد لا تعني بالضرورة نهاية نظام. و لكي يؤتي رحيله ثمرته الحقيقية كان لزاما على القوى المعارضة من أحزاب و منظمات المجتمع المدني من أن تقوم بدورها التوعوي ،السياسي و الثقافي، لحماية مكاسب التغيير و السهر على تطبيق القانون و دحر معاقل الولاء أيا كان مصدره و نوعه. و لكي لا نـُلدغ من ذات الجُحر مرتين و ثلاث و أربع وجب علينا أن ننزع عنا نهائيا ثياب الثقة السياسية من قبيل ” ثقتنا في الله و في بن علي كبيرة” ليكون منهجنا منهج حيطة و محاسبة و مراقبة.

خلاصة.

إن الدروس التي يمكن إستخلاصها من هذه التجربة الفريدة التي لا تزال في بداياتها بالغة الأهمية شكلا ومضمونا. وهي مبادرة لا تخدم النظام على عكس ما ذهب إليه البعض ممن رأى فيها مسرحا سياسيا مراهقا يتباكى فيه “الجبناء” ،ممن يهابون مواجهة النظام بوجوههم و أسمائهم، على قدرهم المشؤوم. و كما رأينا فهي مبادرة تعزز نسق استنزاف الطاغية بن علي بسبب ما يمكن أن تـُحدثه من ترشيد للفعل الأحتجاجي والسياسي والإعلامي. فهي ليست عملية إنفعالية محصورة بحدود الزمان و المكان تخبو بخبوّ أصحابها و مؤسسيها و تقف عندما يقررون التوقف عن إضراب أو الدخول في حوار مع السلطة، بل هي ديناميكية عمل منظم يعرف كيف يزوّج الحيوية الذاتية و الدائمة لشبكة المعلومات بشعور الغضب تجاه آلة الإستبداد التونسية في مسار تصاعدي منتج لديناميكيات جانبية مستقلة. إنها في نفس الوقت مزيج من التقنية و التسويق و الفرادة و بساطة الخطاب تمتطيها قضية عادلة في حاجة ماسة إلى التواصل مع من يحمل هم السياسة و من ليس له في سوقها باع.

[1] La double serrure, par Mokhtar Yahyaoui, 03 octobre 2005

[2] طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي . الصفحة 84.

[3] خالد الطراولي،
إشارات على طريق مبادرة يزي..فك

، الاحد 16 تشرين الأول 2005