بقلم الطاهر العبيدي ( أبو كرامة)

أنا عادل الثابتي؟
قد لا يعني اسمي لكم شيئا، فلست من أثرياء القوم، لست من أصحاب الجاه والقصور، ليس لي مال ولا بنون، ليست لي مغازات ولا مقاهي ولا مطاعم، ولا مشاريع ولا ما شابه كل هذه الأمور… بل ببساطة الجملة وعصارة الكلام، أنا مواطن بلا عنوان، مواطن بلا روتوش ولا ألوان، مواطن بلا بيت ولا مكان، مواطن بلا حقوق بلا حرية ولا أمان، مواطن بلا شغل بلا وظيفة وبلا ” أكتاف “، مواطن بلا حاضر ولا مستقبل سوى كدس من المظالم والأحزان…

مواطن قد تقرئونني أيها السادة، قد تلتقونني يوما ما، قد تسمعون همسات أوجاعي ما بين هذه السطور الجدباء، أو قد تتركوني خارج دوائر الاهتمام وخارج حنايا الصدور، ومع كل ما يمكن أن يكون وسيكون أتجرّأ على القول لأقول، أنا عادل الثابتي مواطن ككل المواطنين الأبرياء، مواطن ككل المواطنين الفقراء، مواطن ككل المواطنين البسطاء، أحلم بالعدل بالحرية بالكرامة وبدولة القانون، مواطن كنت ولا زلت حين دخلت الجامعة، زغردت أمي ّ ” اليامنة ” طويلا فرحة بنجاحي في الباكالوريا، زغردت حد البكاء، رقصت حتى الإغماء، تحاملت على جسدها المتعب بأثقال الزمن وملوحة العيش وغبن السنين، وذبحت الديك الوحيد الذي يوقظنا باكرا لرعي تلك الشويهات العجاف، وأقمنا عرسا ممتعا بسيطا دافئا ككل أعراس القرويين البسطاء، والدي إبراهيم الثابتي كان سعيدا جدا، تتجاوز فرحته كلّ أخاديد التعب والإعياء، فخور بي تتسلق وجهه علامات الشكر والرضاء، كيف لا أيها السادة الأعزاء، وابنه عادل الثابتي بعد أربع سنوات من الصبر والمعاناة، سوف يتخرّج أستاذا يعلم الأجيال فنّ التاريخ، يعلمهم فنّ الذاكرة، يشرّح لهم أحوال الأمم والمجتمعات، يدرّسهم أخبار المستبدّين وانهيار الطغاة، يعلمهم أن الحاضر لا يبنى على الأوهام والخرافات، والمستقبل لا يصاغ دون الاستفادة من التجارب والقصص والعبر التي عاشتها قبلنا تلك المجتمعات، كيف لا تفرح أيها السادة وابنها عادل الثابتي بعد أربع سنوات سوف يمسح عنها غبار الريف القاسي الجاثي على جسدها النحيف، ويساعد والده الذي هدته ملوحة السنين وافترست وجهه تجاعيد الخصاصة والاحتياج، ورغم ذلك ظل منتصبا شامخا دون انحناء، كشجرة البلوط المنتصبة عاليا قرب زريبة الأغنام…

أنا عادل الثابتي مواطن أيها السادة الكرام، أسكن ولا زلت أسكن وأفراد أسرتي البؤساء، في ” عين جلونة ” أحد أرياف القيروان الجدباء، التي تشكو قسوة الطبيعة وشحّ السماء، والمستلقية بين قبضة العطش ومخالب الشقاء…

دخلت الجامعة أيها السادة ” كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية 9 أفريل “، محمّلا بحلم الشباب وحلم العائلة وحلم القرويين البسطاء، وأذكر أيها السادة أنه في أول سفري من الريف إلى العاصمة، حملت عباءة الشتاء وملابس متعبة تشكو الإهتراء، وخبز مطهي وقدّيد وحبات زيتون وبعض الأشياء، وكانت والدتي تحرص أن تتذكر كل ما من شأنه أن يقيني الجوع والخصاصة والاستجداء، وهي تودعني أمام قنّ الدجاج احتضنتني طويلا، فلمحت في عيونها قطرات من الدمع والحزن، وصوتأ يعطبه البكاء، وأخرجت من صدرهاّ ّ”سرّة ” ملفوفة في قطعة قماش وأوصتني أن تكون فطور الصباح، معددة منافع ” البسيسة ” وقيمتها الغذائية على المفاصل والأجسام، مضيفة لقد صنعتها لك بالحمّص والحلبة وزيت الزيتون والقمح، والبسباس، وكأني أسمعها تعزف لي أنشودة ” خذ البسيسة يا مضنوني “…

والدي رافقني إلى الحافلة صباحا قبل أن تستفيق الطيور، كي نمرّ عبر المسارب والثنايا الوعرة، بين تلك الجبال الجرداء، والأشجار الشاحبة، والأعشاب الخجولة، كان صامتا صمتا يشبه الكلام يشبه البركان، أوصيك يا ولدي أن ترفع رؤوسنا، أوصيك يا ولدي أن تطيل رقبة أبيك، أوصيك أن لا تنسى أننا فقراء جدّا، ولكننا وطنيون حد النخاع، رصيدنا شرف ولقمة حلال وكرامة وكبرياء…

رحلت من ذاك الريف الأجدب لأنزل في العاصمة، هذه المدينة الصاخبة المتحركة المتأوهة المتمططة المكتظة بالسيارات، والعمارات والحافلات والمغازات والأسواق النابضة بالحياة، أنهار من البشر تسير في الطرقات، الناس هنا في خطاهم مسروعون، لا وقت لديهم للوقوف والمسامرة والكلام، الطرقات متحرّكة مزدحمة منتفضة، والصفوف متناثرة، والأضواء مترامية والليل هنا لا يشبه ليل دوار ” عين جلونة ” الداكن السواد الذي ليس فيه ماء ولا كهرباء، منبهات أصوات السيارات توقظك تحرمك من الاختلاء بالذاكرة، الباعة منتشرون على حافة الطرقات، والسلع مصففة متراصفة مترادفة، تستفزّك وتحرّضك على التفرّج وتلمّس الجيوب… المغازات تستوقفك تجبرك على التمني على الحلم ما بين اليقظة والمستحيل، أكشاك الورود في شارع الحبيب بورقيبة، لوحات من كل أنواع الأزهار تبعث في قلبك البهجة، وتذكي أنفك بروائح العطور… السماء بلا قمر تغطيها أسراب الحمائم والطيور…

دخلت الجامعة ” كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية 9 أفريل “، وهناك في عالمي الجديد، كانت الحياة لها وقع آخر وطعم آخر وحسّ آخر، تختلف عن الفضاء الخارجي، كانت منصّة للتناظر والتحاور والتخالف والتزاحم والتنافر والتدارس والتحاجج والتعارض والتخاصم..

وكنت واستنادا على أحد فصول الدستور، الذي يقول أن للمواطن حق التنظم وحق إبداء الرأي والتعبير، انضممت إلى الاتحاد العام التونسي للطلبة، عضوا بالمكتب التنفيذي مكلفا بالإعلام في مؤتمر ديسمبر،1990 لأجل المساهمة في تخصيب الرأي وتجسيد نص الدستور، والمشاركة في تغذية التعددية وانفتاح العقول، والإيمان بحقّ الاختلاف في ظل دولة العدل والقانون، غير أن هذه المعاني افترستها دولة القهر، واجتاحتها سلطة السجون، فوجدت نفسي وأنا في السنة النهائية أساق إلى السجون، كما تساق البهائم والحمير، لانتقل من كلية 9 أفريل إلى سجن 9 أفريل من كلية المعرفة والعلم والأحلام، إلى سجون القهر والتعذيب والظلام، لأمضي بسجون البشاعة والتدمير 5 سنين، كان ذلك حين تم توقيفي في ديسمبر 1991، لم يكن ملفي أيها السادة يحتوي على ما يمكن أن يصنف بالملف الخطير، سوى بعض الأراجيف والتقارير التي لا تستند للمنطق والقانون، ولكم أن تعودوا للسان الدفاع لتتأكدوا من صحة ما أروي وأقول، ولا زال الأستاذ بشير الصيد والأستاذ نورالدين البحيري ممن كلفوا بالترافع عن قضيتي شهود أحياء، للحقيقة والتاريخ يعرفون كل هذه الأمور، ويعرفون أن محاكمتي!

ليست سوى محاكمة للرأي والتعبير وتمر الأيام والشهور والأعوام، وأنا أصارع الأوجاع والآسي والعذاب والآلام، في سجون دولة الاستقلال، ليطلق سراحي بعد 5 سنوات، لأعود إلى بداية البدايات، لأعود لدوار العطش أرعى الأغنام.
عدت لأجد والدتي اليامنة طعنتها نكبة السنين، لأجد والدي إبراهيم يتدهور جسمه تتقوس قامته ويتبخر حلمه الدفين، ووجدت العالم تغير ونحن لا زلنا ننام على الأرض نفترش التراب على الحصير، في بيت حقير لا كهرباء ولا ماء ولا تلفزيون، وظللت أرعى تلك الشويهات العجاف، ووجدت عمري يتدحرج نحو الكهولة والرأس يغزوه المشيب، ونحن خارج الكون وخارج العصور، في ذاك الريف الملثم بالجفاف والخصاصة والوحل والطين، ذاك الريف القاحل الذي ليس فيه غيري وتلك الشويهات الجياع، وأسراب الغربان والطيور.. ففي عالم ثورة الأعلام والفضائيات والانترنيت وكل أنواع الاتصال، لا املك سوى راديو Transistor صغير، هو كل ما أملك في دولة التحول والتغيير، ومنذ مغادرتي السجن سنة 96، ظللت أرسل المكاتيب تلو المكاتيب، من أجل إتمام دراستي وبقيت على هذه الحال 8 سنوات، لم يبق لي سوى الدخول في إضراب جوع، من أجل المطالبة بحقي في الدراسة ولا شيء غير هذا الحق الشرعي البسيط…

هذه أيها السادة باختصار كبير ما جنته عليّ دولة التغيير، وهذه بعض حكايتي وحكاية حلم عائلتي، وحكاية دولة الاستقلال، الذي صار فيها المواطن متهما قبل النطق والكلام، هذه أيها السادة جزء من مأساتي ومأساة عائلتي التي ضاقت بها الحياة وضاق بها الزمان، هذه حكايتي التي لا تتطلب كل هذا الحقد، كل هذا الظلم، كل هذا التشفي من إنسان آمن بحق التعبير وحرية الكلام، هذه حكايتي التي تحتاج وقوفكم إلى جانبي، فأنتم أبناء بلدي أبناء وجعي، أبناء ألمي أبناء حلمي أبناء أملي، وأنتم يا أنتم يا من كنتم في الطرف المقابل باتحاد طلبة تونس، يا هؤلاء الذين جمعتنا نفس الجبهة رغم اختلاف الآراء، فأين أنتم الآن من قضيتي وقضية أمثالي، فأين أنت يا نجيب البكوشي – ويا لطفي الهمامي – ويا محسن الشابي – ومحرز الزغدودي… وغيركم وكل مناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس، فكيف تتركون طالبا مثلي يقاوم وحده الطغيان، طالبا تقاسم معكم مقاعد الدراسة وساحات الفعل ومبيتات الرعب، وقاعات الدرس… فهاأنذا اقدم جسدي قربانا لأجل حق الدراسة، وانتم لهذه المأساة تتفرّجون…