بقلم عبد الصمد الفالح

“كم هي عديدة اللحظات الحاسمة في التاريخ التي لم تطلب ممن صنعوها سوى لحظة تفكير بريء ..فهل تمتلكون شجاعة استعادة ما للطفل” من رسالة مفتوحة وجهها ختروشي للرئيس بوتفليقة ونشرت في جريدة الحياة بتاريخ2 يونيو 2001
هل استعاد نورالدين ما للطفل وكتب رسالته الأخيرة ببراءة ؟؟

لبدأ الحكاية من الاول:

عرفت نورالين سنة 86 وكنت طالبا بكلية الحقوق بتونس ووفي شهر 11 او 12 من تلك السنة تحولت بمعية عدد من الرفاق الى كلية الآداب بمنوبة للمشاركة في تحرك مركزي احتجاجا على نص للدساترة علقوه يومها هناك وكان الاخوان في أوج تحركاتهم لإسقاط قانون أوت 82 . عقدنا اجتماعا مشتركا مع الناصريين واقترحنا ان نقوم بمسيرة داخل الكلية واقترح القوميون مظاهرة بتونس العاصمة وكانوا يزايدون علينا لما طلب نورالدين الكلمة لم يكن معروفا يومها صعد الى مكان الخطابة وتكلم باسم الاتجاه السلامي وفاجأ الجميع فقد كانت موهبته الخطابية غير عادية وقد تضاعف عدد الطلبة عند مداخلته ولما رأى ان الموازين أصبحت لصالحه أقترح ان نخرج مع القوميين الى الشوارع بشرط واحد هو ان نبدأ بفك الحصار عن الكلية ثم نزل من الخطابة ولم ينتظر أحدا بل طلب من الجميع السير وراءه ولما وصل الى بعد مترين او ثلاثة من باب الكلية صعد على كتف احد الزملاء ونادى أمام البوليس بأعلى صوته أين فرسان العروبة أين أحفاد عبدالناصر تعالوا لنعانق الشوارع وطبعا انسحب القوميون الى الخلف فما كان منه الا ان أتم الاجتماع وحوله الى ندوة نقابية وعبثا حاولنا إستعادة الاجتماع المشترك فقد ألتف حوله الطلبة العاديون وفشل تحركنا….. هكذا تعرفت لأول مرة على ختروشي ثم ومن سوء حظنا في كلية الحقوق جاءنا في السنة الموالية وكان هو قائد الإخوان في المركب الجامعي وقد”شوَملنا العام فعلا” ولن أنسى ليلة مبيت أريانة حيث نظم اليسار ندوة سياسية وبحضور كبار الرموز وكان نورالين هناك ليلتها طلب الكلمة ولم تعطى له فأنسحب بكل هدوء على غير عادته وبعد نصف ساعة تقريبا طلبت طالبة “خليعة جدا” الكلمة وسجلناها ولما جاء دورها تنازلت عن تدخلها لفائدة زميل وأشارت بأصبعها إلى الوراء لم يصدق أحدا فقد كان هو المعني …… ورغم أننا حاولنا ضبطه بعشرة دقائق الا أنه سرعان ما جلب انتباه الطلبة العاديين للندوة بقوة صوته وأسلوبه الرائع ولما حاولنا إيقافه أنطلق الطلبة بالتصفيق والتصفير والصياح وواصل الندوة معنا الى الفجر وكان ينتقل من الفلسفة الى التاريخ الى السياسة بسهولة وسلاسة يحسد عليها كما كان حاضر البديهة قوي الحجة وصاحب نكتة ومما حفظنا عليه أنه في صباح احد الأيام بكلية الحقوق بدا اجتماعه بالجملة التالية
” صباح الورد والفلّ أيها الزملاء صباح الشوك والزقوم يا صاحب البدلة الزرقاء” وأشار بأصبعه الى البوليس الذي لم يكن بعيدا عن “حجرة سقراط”.

نورالين رغم أننا لم نره الا سنة أو سنتين في الجامعة فقد ترك بصماته في جيله لقد كان ظاهرة.. حيوان سياسي مفترس وداهية لا يرحم خصومه ولكن يفرض على غيره الاحترام بعمق تحاليله وسعة ثقافته لم أعرف اسمه الحقيقي ـ كنا نعرفه باسم أنور ـ إلا في صيف سنة 91 حيث كانت صورته معلقة في مكتب عمدة قريتنا في الشمال الغربي الى جانب الغنوشي وبعض قيادات النهضة المبحوث عنهم يومها …
مضت السنوات وجئت الى باريس لأتم المرحلة الثالثة في أواخر التسعينات وقد سنحت لي الفرصة للقائه بمقر الاتحاد العم للعمال التونسيين المهاجرين بباريس الذي نضم ندوة سياسية أستضاف فيها رئيس المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية القانوني ونورالدين ختروشي وثلة من المناضلين اليساريين وقد فاجئني ليلتها بعمق خطابه الوطني البعيد عن كل حزبية وأحسست أن الرجل تغير كثيرا ثم علمت من السيد عبد اللطيف بن سالم أنه خرج من النهضة وهو على فكرة من المعجبين به ويقول عنه أنه غرامشي الإسلاميين وصراحة لم أصدق قصة خروجه من النهضة وكنت أتصور وهو تصور العديد من الرفاق أن ختروشي هو الوجه الاخر للنهضة المعتدلة فمن يعرف نورالدين بالجامعة لا يتصور للحظة انه يمكن ان يستقيل فقد كان الفاطق الناطق وينضبط له الإسلاميون بشكل لا يوصف وليس رمزا عاديا ولما قرأت له مساهمته في كتاب تونس الغد قلت في نفسي الحكاية يمكن أن تكون جدية وليست مجرد تكتيك من النهضة فالمساهمة كانت أهم مافي الكتاب وهذا ليس رأيي الشخصي بل رأي جميع من قرأ الكتاب فالغنوشي وبن جعفر والمناعي والمرزوقي تحدثوا في نفس الموضوع بأفكار معروفة وليست غريبة عن الساحة أما ختروشي فقد أختار الحديث عن تونس الأمس واليوم وكأنه يقول للجميع لنـتفاهم أولا عن الماضي والحاضر وعلى ضوءه نفكر في المستقبل وأنا بالمناسبة أدعو كل من يريد فهم سنوات حكم بن علي وطبيعة المواجهة اليوم مع النظام أن يعود إلى تلك الورقة فهي في اعتقادي أهم ما كتب في السنوات العشرة الماضية على الأقل.

رأيت نورالدين بعدها أكثر من مرة ولاحظت انكفاءه على نفسه فقد كان يحضر مع اليسار في جل اجتماعاته الضيقة والموسعة وكان دائما لطيفا وبشوشا ولكن يعرف كيف يترك مسافة بينه وبين الجميع فلا يقبل عليك إذا لم تسلم عليه أولا ثم لا يدخل في نقاشات ثنائية وغالبا ما يفضل الصمت ولا يأخذ الكلمة إلا نادرا بما أعطى لشخصيته نوعا من الغموض والهيبة والكاريزما .

هكذا عرفت المناضل نورالدين واقسم بشرفي إنني كلما رأيت إسمه على رأس مقالة إلا وأخذت قلما وورقة لأسجل بعض الأفكار الجديدة فالرجل لا يكتب كثيرا ولكن عندما يكتب لابد أن يقول جديدا وقد جمعت له العديد من الجمل الرائعة من مثل “في الحوار جوامع الخلق” ومن يراجع مقالاته يجد الكثير من الصياغات الجميلة التي تطبع من يقرأها ……أنتظر أن يعزز المكتبة العربية بدراسات وكتب نوعية وادعوه بحرارة أن لا يتغيب كثيرا مثلما فعل في السنوات الأخيرة
أعود إلى الرد الأخير الذي أجاب فيه ابوسيرين وصراحة لو كنت أتقن الترجمة لترجمت ذلك النص الى اللغة الفرنسية فقد أعطانا جميعا درسا في الاخلاق الثورية والنضالية وهاتوا أعطوني سياسيا واحدا في الشرق أو في الغرب خرج من حزبه معترفا لرفاقه بفضلهم عليه ويرفع من شأنهم ويحط من شأنه بذلك الشكل… ثم وهذا الاهم يعلن تحمل مسؤوليته الاخلاقية كاملة أمام الشهداء والمساجين والمجموعة الوطنية وهذه سابقة تسجلها له الذاكرة الوطنية ..حقيقة إذا كانت هناك جائزة للاخلاق السياسية فأنا أرشح لها نورالدين ختروشي فبشجاعة رجل أعلن تخليه عن الإسلام السياسي وبشجاعة رجل أعترف للإسلاميين بكل الفضائل وكتب قصيدة حب ووفاء لتاريخه المشترك معهم لا أدري كيف أعبر عن إعجابي بهذه المروءة النادرة في سوق السياسة اليوم فحتى الإخوان تبادلوا الشتائم ونشروا غسيلهم على الانترنيت ونورالدين رغم مواقفه النقدية للنهضة والتي تابعتها في عدة نصوص له لما لاحظ أن السلطة تحاول النفاذ منها لتقويض ما تبقى من بيت النهضة رد بسرعة ردا ستحفظه له الأجيال المقبلة وذاكرة الوطن.

لقد أعاد الاعتبار لحركة ينهشها البعيد والقريب وعند الشدائد تعرف الرجال واستغربت كيف لا تبادله قيادات النهضة التحية بمثلها.

لقد لقننا جميعا درسا في الرجولة والأخلاق النضالية العالية فألف شكر
أختم هذه الشهادة بكلمات جميلة وردت في آخر ورقته في كتاب تونس الغد…” ان السعي نحو المختلف سعي مبارك بعناية التاريخ لانه ببساطة النقطة الاولى في تسطير خط الحقيقة “…”.فان نجح هذا الحوار في تأسيس جبهة عمل ديمقراطي موحدة ..فله أجران وان لم يستطع ذلك فليجتهد في أن تحافظ نضالاتنا على وحدة الوجهة وللحوار في الحالة أجر واحد” …”إننا ممن لا يحبذ وحدة ملغومة بحيرة الشك في الرفيق المختلف لأننا نخشى على أصحابها أن يهدموا بالتسرع ما بنته الروح وبالحماسة ما رممه الوعي”….. “المطلوب أن نقبل على بعضنا بوجوه مستبشرة بعودة الوعي وصحوة الضمير وشجاعة مغالبة الذات لتستوي على سوقها بزينة التواضع فالساحة تسع الجميع” كلمات من ذهب لو تأملها زعماء المعارضة وعملوا بها لكان الحال غير الحال …………..

في الأخير أطلب من سيادته أن يبين لنا المستندات الفكرية لتركه لما سماه بالإسلام السياسي .

عبد الصمد الفالح


مناضل يساري