محمد النــّوري (*)

المصدر / العصر / بتاريخ 9 جوان 2005

mohamednouri56@hotmail.com

هل آن الأوان لطرح مثل هذا السؤال الوطني الاستراتيجي طرحا موضوعيا بعيدا عن الحسابات السياسية والحزبية من أجل الوقوف على حجم الخسارة والأضرار التي لحقت بالبلاد من منظور اقتصادي – تنموي واجتماعي – ثقافي ؟

ما هي الكلفة الحقيقية لغياب الحرية في بلد – مثل تونس – يشهد تحولا اقتصاديا ويحتاج إلى دفعة تنموية لا تتم إلاّ من خلال حشد كل الجهود وتعبئة كل الطاقات والموارد ومنع كل أسباب العطالة والتدمير وهدر الثروة الوطنية وتبديد رأس المال البشري ؟

هل ربحت تونس فعلا بإقصاء الحركة الإسلامية وشلّ طاقاتها وتعطيل كفاءاتها عن المساهمة في جهود التنمية المتعثرة في وقت هي في أمسّ الحاجة إلى كل أبنائها بالداخل والخارج لمواجهة التحديات وتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي ؟

هل حقق مشروع الاستئصال وتجفيف الينابيع أغراضه في استئصال الحركة الإسلامية وتحجيم الظاهرة الدينية وتسريع الديمقراطية، أم أنه أدّى إلى تحويل البلد برمّته إلى مجتمع شبه ميّت سياسيا وثقافيا واجتماعيا بشهادة كل المراقبين والمنظمات الدولية المحايدة ؟
وأخيرا هل هناك مصلحة في الإضرار بسمعة البلاد وصورتها الخارجية وتأليب الرأي العام الداخلي والخارجي عليها، أم أن المطلوب على عكس ذلك تماما، هو تغليب المصلحة الوطنية وإعلاء شأنها فوق كل المصالح والاعتبارات الأخرى ؟

هذه التساؤلات الجوهرية بحاجة إلى إجابة هادئة وموضوعية خاصة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الجديدة وتنامي دعوات الإصلاح والمصالحة في كل مكان وهو ما يستلزم استجابة ذاتية وانتقالا تلقائيا بالبلاد من مرحلة الانسداد وكبح الحريات إلى مرحلة جديدة تقوم على انفتاح الدولة على المجتمع والقوى الوطنية
والتدرج الحقيقي نحو التعددية والديمقراطية

الحرية المفقودة:

هناك مفارقة صارخة في تونس بين درجة الانفتاح الاقتصادي ومستوى الانغلاق السياسي وكبح الحريات، فقد بلغت الأولى رقما قياسيا وصل نسبة 82 % مقابل 22 % فقط في بلد مثل المكسيك و39 % في الجزائر و43 % في المغرب (1)، بينما تصدرت تونس معظم التقارير الدولية التي تتناول أوضاع الحريات وحقوق الإنسان مثلما يؤكد ذلك جل المراقبين والمهتمين بالوضع التونسي من جمعيات ومنظمات محلية وإقليمية ودولية. فقد أصبحت الحالة التونسية، حالة ملفتة للإنتباه – للأسف الشديد – في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وتحولت إلى مادّة دورية ومنتظمة لتقارير تلك الهيئات والمجموعات. ويكفي التأمل في تقريرين أساسيين أجمع المراقبون على اتسامهما بالحيادية والجرأة في نقد الأوضاع:

-  تقرير التنمية الإنسانية العربية الأخير الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (2004)، الذي أطلق صرخة حادة عن واقع الحرية في المنطقة العربية بجميع أقطارها دون استثناء بما في ذلك تونس، التي تشكو من نقص فادح في الحريات ويهيمن عليها الكبت والقمع في جل المجالات.

-  وتقرير مجموعة الشبكة الدولية لتبادل المعلومات حول حرية التعبير (آيفيكس) وهي مجموعة خاصة لمراقبة حالة حرية التعبير بتونس في إطار التحضير لقمة المعلومات (2005) حيث اعتبر حرية التعبير بتونس تحت الحصار، وعبّر عن مخاوف بالغة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان بما فيها ممارسات التعذيب والسجن ووضع القيود على إنشاء الجمعيات ومراقبة الانترنيت وحجب مواقع الأخبار والمعلومات. وأوضح التقرير في النهاية أن الحكومة التونسية فشلت في إتباع التوصيات المطلوبة.

ألا تستدعي هذه الحالة المذهلة، وقفة مسؤولة للتدارك والمراجعة وتصحيح الأوضاع قبل فوات الأوان؟

هل يكون اختيار تونس من قبل المجموعة الدولية لعقد مؤتمر قمة المعلومات، شهادة لها أم عليها ؟

كل ذلك يتوقف على مدى تجاوب الإرادة السياسية في البلاد مع نداءات الإصلاح واتخاذ القرار المناسب للقطع مع خيارات المغالطة والتمويه والإقدام على إجراءات فعلية في اتجاه تقليص الفجوة القائمة في مجال الحريات وخصوصا حرية الرأي والتعبير والكف عن انتهاك حقوق الإنسان والتضييق على المعارضة.

لا يمكن لبلد مثل تونس يطمح للدخول إلى نادي المعلومات الدولية ويستعد لاحتضان مؤتمر قمة المعلومات، أن يستمر في سياسة صمّاء إزاء المطالب الداخلية والخارجية للقيام بإصلاحات هيكلية من أجل النهوض بواقع الحريات ووضع حد للهوة الحاصلة بين القول والعمل.

لقد عانت البلاد خلال العشرية والنصف الماضية ما يكفي وتكبّدت الحركة الإسلامية النصيب الأوفر من المأساة وتوسّعت المظلمة لتشمل شرائح واسعة من المعارضة والمجتمع المدني وصودرت الحريات بذريعة التنمية وتمت هرسلة المجتمع وتفكيك بناه باسم التحديث القسري، وتمّ إقصاء القوى الفاعلة والسطو على كل الرأسمال المادي والرمزي للبلاد، ولكن النتيجة لم تكن في الحسبان، فقد ظلت الحركة الإسلامية صامدة رغم الضربات القاسية التي لحقتها، ورغم محاولات الاجتثاث فقد عادت الصحوة الدينية إلى الواجهة على عكس ما كان متوقعا. وأضحت مخاطر العنف والتشدد مخيّمة على البلاد…

الكلفة الاقتصادية:

ما من شك أنّ غياب الحرية في المجتمع له انعكاسات مباشرة على صلب العملية التنموية. فهو مسلك يساهم في تهميش الفرد وإخضاعه وإلغاء كل فاعليته الإنتاجية. فأسير الاستبداد كما يقول الكواكبي “يعيش خاملا فاسدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته”.

فالحرية والتنمية مساران متلازمان لا يمكن الفصل بينهما. فحيث هناك حرية هنالك تنمية حقيقية وهناك تقدّم اقتصادي، لأن الوطن الحرّ يبني مواطنين أحرارا يشكلون ثروة بشرية هائلة لا يمكن بدونها إنجاز تنمية تذكر.

والمجتمعات المتقدمة التي حدثت فيها تنمية هي تلك التي قطعت فيها الحرية أشواطا كبيرة غير قابلة للانتكاس والتراجع. أمّا تلك التي لا تزال تعاني أوجه الكبت والقمع ونقصا فادحا في الحرية وحقوق الإنسان، فإن التنمية فيها هشة ومتعثرة وغير عادلة إن لم تكن مفقودة أصلا.

عندما نمعن النظر في الشأن التونسي، تتراءى لنا بصورة موضوعية الانعكاسات الخطيرة لغياب الحرية وإقصاء شرائح هامة من المجتمع لأسباب سياسية وغيرها بالإضافة إلى اتساع دائرة البطالة بشكل ملفت ومتعاظم، والبحث المكثف عن الهجرة لدى قطاعات واسعة من الشباب، وبالأساس هجرة الأدمغة والكفاءات.

إذا اعتبرنا الإحصاءات الرسمية، يبلغ عدد السكان النشطين في تونس اليوم ما يقارب 3.5 مليون شخص وهم السكان العاملون (حوالي 3 مليون شخص) والعاطلون عن العمل (ما يزيد عن نصف مليون شخص).

ويبلغ الناتج الوطني الإجمالي حوالي 30 مليار دولار أمريكي ومعدّل الناتج الوطني للفرد الواحد 3000 دولار سنويا (2).

ويقدّر عدد الأفراد الذين طالتهم الأزمة التي نشبت بين السلطة والحركة الإسلامية في بداية التسعينات لحد الآن حوالي 30.000 شخص (3) دخلوا السجون بشكل من الأشكال لفترة ما، ثم خرجوا منه لكن دون أن يتمكنوا من الاندماج الفعلي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بل ظل أغلبهم على هامش الدورة الاقتصادية الفعلية بالإضافة إلى بضعة آلاف اضطروا للهجرة إلى الخارج وعشرات الآلاف من الأشخاص الذين تعرضوا للاضطهاد ومضايقات شتى منها الإقصاء والطرد من الشغل والحرمان من الوظائف، بحيث يكون العدد الإجمالي لضحايا الأزمة لا يقل عن 60.000 شخص في أقل التقديرات.

ومن خلال هذه المعطيات العامة والسريعة وبعملية حسابية جدّ بسيطة، يمكن تقدير حجم الخسارة الاقتصادية التي أفرزتها أزمة التسعينات بالبلاد ولا تزال قائمة لحد الآن كما يلي:
60.000 x 3000 دولارا x 15 سنة = 2,7 مليار دولارا
وهو ما يقارب 10 في المائة من الناتج الوطني الإجمالي وما يكفي لتسديد حوالي 20 في المائة من المديونية الخارجية للبلاد. علما وأن هذا التقدير يعتمد على معدل الإنتاج الوسطي للفرد الواحد في المجتمع. بينما تشكل الفئة الاجتماعية لأبناء الحركة الإسلامية شريحة هامة من الكفاءات النشطة اقتصاديا والتي يزيد ناتجها الاقتصادي بكثير عن مستوى المعدل الوسطي المذكور. يضاف إلى ذلك فقدان البلاد للآلاف من الطاقات التي التجأت إلى الهجرة القسرية واستفادت من نشاطها الأقطار المضيفة.

لكن مخاطر غياب الحرية ودور الاستبداد في تدمير التنمية لا يمكن قياسها بمثل هذا التقدير الحسابي الغاية في التبسيط. إن المسألة أعقد بكثير مما نتصور. فغياب الحرية في المجتمع مسلك خطير له آثاره الوخيمة على التنمية البشرية باعتبارها مدخلا أساسيا من مدخلات الإنتاج. فسياسات الكبت والقهر لا يمكن أن تقود إلا إلى تلاشي الروح الوطنية وانحسار المبادرة الفردية وإضعاف مناعة المواطن الصالح وقدرته على النهوض. كما تساهم في هجرة المهارات خارج الوطن وهي خسارة مضاعفة للبلاد باعتبار حجم النفقات التي ساهمت في تكوينها وإعدادها طوال مدة التعليم قد ذهبت سدى، كما أن التأثير المرجو لهذه الكفاءات في جانبها الإنتاجي والتنموي قد اندثر.

التحديات الحقيقية:

إن تونس بلد صغير سكانيا ومحدود جغرافيا ولا يملك ثروات طبيعية ومالية هائلة تمكنه من مواجهة المصاعب والتحديات المصيرية التي تنتظره من جرّاء هيمنة العولمة وتداعياتها المتنامية على كل الأصعدة الاقتصادية والتجارية والمالية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

ولا تملك تونس في هذا السياق سوى الاعتماد على الرأسمال البشري الذي شكل ولا يزال الثروة الأساسية التي تكمن وراء ما تم إنجازه لحد الآن على صعيد التنمية. الاستثمار في الإنسان يشكل أكبر إنجاز حققته تونس طيلة العقود الماضية. ومن غير المعقول، تبديده أو إهداره جزء منه بأي شكل من الأشكال. المطلوب تنمية هذا الرصيد البشري الهام لمواجهه المصاعب والتحديات المطروحة. ولن يكون ذلك في ظل غياب تام أو نقص فادح في الحريات وكرامة المواطن.

إن الحالة الاقتصادية التونسية، برغم كل الإنجازات والنجاحات التي تم تحقيقها في بعض المجالات، لا تبعث إطلاقا على الاطمئنان.
فقد أصبحت مقولة النمو الاقتصادي المقدم على الانفتاح السياسي بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة، غابة الاختلالات الهيكلية والعجز التجاري والمالي المتفاقم واقتران المديونية الخارجية بظاهرة التداين الفردي للمواطن مما حول البلاد، دولة وأفرادا، إلى رهائن للشركات المحلية والمؤسسات المالية الدولية. فقد بلغت المديونية الخارجية حوالي 15 مليار دولار (1500 دولار على الفرد الواحد) وأضحت ظاهرة التداين الفردي أو الأسري ضمن الظواهر الأكثر انتشارا والتي تشغل بال الأفراد والمؤسسات وهي أشد خطورة عندما تصبح الديون الفردية غير قابلة للإستخلاص ومصدرا لتوتر العلاقات الاجتماعية وتزايد الخلافات والمشاحنات بين الناس. وحينها قد يصل الأمر إلى نشوب أزمة عامة يصعب التحكم فيها (بلغ الدين الفردي 1122 دينارا ما يعادل 1000 دولارا سنويا لكل تونسي).

وللأسف، فإن هذه الصورة الواقعية لا يلمسها إلاّ المواطن وتكتوي بلظاها شرائح واسعة من المجتمع تعاني من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية، بينما تشير الصورة الخارجية بحكم الدعاية المفرطة إلى ما يشبه “الجنة الاقتصادية” التي لم تمنع أفواجا متتالية من شباب تونس إلى الهجرة السرية في قوارب الموت.

إنّ التركيز على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا يتضارب مع إبصار العديد من التطورات والإنجازات الاقتصادية والتنموية التي حدثت خلال العقود الخمسة الماضية التي تفصل البلاد عن خروج الاستعمار المباشر، وهذه الإنجازات يجب أن تكون محلّ تثمين واعتزاز الجميع باعتبارها نتيجة لجهود الجميع دولة ومواطنين ونخب وكفاءات داخل السلطة الحاكمة وخارجها.

صحيح أن الحالة الاقتصادية للتونسيين، عموما، ليست سيئة قياسا بأوضاع مجاورة أو مماثلة، ولكن ذلك ليس كافيا للتغطية على هشاشة الوضع وتفاقم الصعوبات وخطورة التحديات التي تشرف عليها البلاد في السنين القليلة القادمة من جرّاء “درجة الانفتاح العالية” أو الانكشاف التي ارتمت فيها البلاد وفتح فيها السوق المحلي على مصراعيه للمنافسة الخارجية غير المحسوبة وغير المتكافئة وهو وضع خطير ينذر بتهديد المناعة الاقتصادية للبلاد وتحويلها إلى مركز مجرّد خدمات للشركات متعددة الجنسيات.
إن تونس ستصبح في عام 2010 جزءا من منطقة التجارة الحرة بين أوروبا وشمال إفريقيا ولكن ستخسر مقابل ذلك عددا ضخما من القوى العاملة ويتهدد قطاع النسيج أن يسحق من قبل القوى الصاعدة وفي مقدمتها الصين وهو ما يرشح البلاد إلى المزيد من الهزات والاضطرابات الاجتماعية وربما السياسية أيضا وهو ما يعني أن النموذج التونسي القائم على معادلة السيطرة السياسية المطلقة زائد النمو الاقتصادي يساوي الاستقرار قد بلغ حدوده القصوى وأنه آن الأوان لوضع حد لسياسة الانغلاق والبطش والانفتاح على المجتمع بكل أطيافه وقواه للتصدي لهذه المخاطر والتحديات.

لا مناص من تعديل هذه المعادلة الخاطئة ليصبح تسريع النمو الاقتصادي رهين تحقيق الانفتاح السياسي وإطلاق الحريات وإخلاء السجون من سجناء الرأي وفتح حوار وطني يشمل جميع الأطراف دون استثناء ودفع عنان المبادرة الفردية للابتكار والإبداع والإنتاج النافع لمصلحة الوطن والمواطن.

إنّ التحدّي الرئيسي يكمن في كيفية تنزيل هذه المعادلة الصعبة على أرض الواقع من أجل رفع المعاناة عن الناس وإزالة حالة الاحتقان والتذمر وتدعيم الاستقرار والسلم الاجتماعي ومواكبة حركة الإصلاح والتغيير التي تدور على الساحتين الإقليمية والدولية حتى لا تظل تونس نشازا في المنطقة ورمزا للانغلاق والتكلس السياسي بعد أن كانت سباقة ورائدة في الانفتاح والإصلاح الاقتصادي ./.

**********

(*) – باحث اقتصادي/ باريس/ خبير اقتصادي سابق بالجامعة العربية

(1) – بشارة خضر: الشراكة المتوسطية من وجهة نظر الجنوب، باريس 2001،

(2) – ميزانية الدولة التونسية 2003 وصندوق النقد الدولي 2005،
(3) – تقديرات لمنظمة العفو الدولية.