رسالة مفتوحة إلى أخي العزيز الأستاذ الطاهر العبيدي والى كل الأخوة الأعزاء في النهضة والمعارضة

بعد رحلة قصيرة دامت ثلاثة أيام لم أنقطع فيها عن متابعة مستجدات ساحتنا التونسية عدت ولله الحمد والمنة الى ممارسة حقي في الكتابة بعد أن تعذر علي فيما خلا من أيام التواصل باللسان العربي المبين مع لوحة المفاتيح مدخلي الحقيقي الى ساحات الكلمة الصادقة والسجال الوطني المفتوح في عالم من السباحة الافتراضية التي لامست بلا شك قلوب آلاف من التونسيين في ظل غلبة المنطق الأمني وانعدام ساحات فعلية أخرى لمنطق الحوار الجاد والمثمر.

التفت بعد هذه العودة الى مسجل الهاتف لعلي أجد خبرا يؤنسني بعد الله في غربتي وشاءت الأقدار يا سادتي أن أسمع صوتا عزيزا علي كان صوت أخي الطاهر العبيدي الصحفي السابق بجريدة الفجر والقائم حاليا على ادارة مجلة مرايا الباريسية والمراسل أيضا لموقع مجلة العصر الرائدة في مجال الإعلام الاليكتروني برغم ما لدي عليها من مؤاخذات.

كان صوته وخبره بلا شك دافعين لي كي أبحث برقيا عن رقم هاتفه ومخاطبته بعد أن تعذر علي ذلك يوم أمس ولكن وفي غمرة ألم ضياع سبل الاتصال به أو تعطلها رن الهاتف مرة أخرى ليكون أخي الطاهر محييا ومداعبا في نبرة صادقة طال اشتياقي اليها …ثم كان أن تدحرج بنا الحديث الى ما نشرته من مواقف معلنة على موقعي تونس نيوز والحوار.نت منذ أيام قلائل.

ولعلني لن أكون في هذا الموضع ناطقا رسميا باسم محدثي وانما وددت أن أشكر له كل ثناء أو محبة وتقدير لهذا الجهد الذي طالما انتظره, ولابد أيضا أن تكون جملة من مشاكساته النقدية المعتبرة والمثمنة من جهتي مدخلا الى ابداء جملة من الملاحظات والرسائل أعتبرها موجهة بالدرجة الأولى الى الأخوة في النهضة والمعارضة وربما تكون كثير من دلالاتها دروسا قد تغتنمها سلطة الاشراف في تونس اذا ما قدرت أن المقصد من مثل هذه الكتابات هو تعزيز تيار الاصلاح الوطني وتتريسه بمزيد من المشورة والنصح :

أولا: أخي الطاهر، الأخوة الأعزاء في النهضة والمعارضة، أحباءنا في الوطن وان جرتم علينا :

ان ما نشرته في الأيام الماضية من كلمات ومواقف لم يكن قطعا توسلا لأحد كي يسمعنا صوته أو يخرج من شرنقة صمته وانما كان حبا منا وغيرة على بعض أصدقائنا كي يتطلع الى متطلبات مرحلة جديدة لم يعد يجد فيها الاعلام المتخشب والسياسة المحنطة والخطية الحزبية الميتة, لقد كانت مواقفنا المنشورة بلا أدنى شك تعبيرا صادقا عما نسمعه في كواليس الرأي العام والسياسة ,كانت أقوالنا ضميرا حيا لما يمكن أن يتحول في المستقبل القريب الى مشاكسات حزبية فعلية وصراعات حادة في ساحة الوطن تلقي بظلالها السلبية والمرضية المزمنة على المقبل من الأجيال الطامحة الى حياة أفضل في بلدها العزيز تونس.

ثانيا: اننا من خلال ماكتبنا لم نتعمد نشر غسيل حزبي أو حركي يضع بصماته على أداء تيار ما يطمح الى أن يستعيد دوره الايجابي في الساحة الوطنية, وانما أردنا أن نقول للعالم أن انتماءنا هو أعرض من الانتماء الحزبي وأن أخلاقنا أشرف من أخلاق التحنط التنظيمي وأن ولاءنا للأمة والوطن هو أكبر من أي ولاء لأي مشروع حزبي أو حركي برغم ايماننا العميق بجدوى أشكال التنظم في ترسيخ قيم التدافع والتوازن والتنافس بين كل مكونات الفضاء الوطني من أجل تحقيق مشروع وطني يؤمن بالمأسسة كأداة للاصلاح والرقي وبالقانون كأداة لحماية المكتسبات وتعزيز الطموحات وترقية المنجزات…وهو ما يعني أن الانتظام السياسي لا ينبغي أن يصيب أصحابه بحمى الدكاكين السياسية الضيقة أو علل قبور وخنادق الايديولوجيات برغم أن قناعاتي تنطوي على عالم مقدس لا يضبطه الا عظيم وحي اجتمع عليه القطعي من الدلالات.

ثالثا: ان القمع كمرض مهما تعددت أشكاله وألوانه سواء أصيبت به السلطة أو المعارضة يعتبر مقتلا للابداع والتنوير والتحديث والتطوير حتى وان اقتنع أصحاب الدكاكين ولو كبر حجمها وضخم عدد زوارها بأن ما يعرضونه من بضاعات جيدة يقتضي تحطيم قانون المنافسة وإلغاء قاعدة العرض والطلب ولا شك حينئذ أن الخوف من الرأي الآخر ومصادرته أو التحذير منه عبر إصدار الأوامر أو تعمد تجاهله واحتقاره والضغط المتواصل على أصحابه سيؤدي لا محالة الى انتصار المولود الجديد حتى وان كان جنينيا طري العود ضعيف البنية الجسدية عند إطلالاته الأولى الى عالم الوجود.

ولعلني أجد نفسي مضطرا الى الحديث في شفافية عن أن حالة من الهرمية والشيخوخة قد تصيب الهياكل الحزبية الموجودة في ساحتنا التونسية اذا لم تتطلع هذه الأخيرة الى طموحات الجيل الجديد الذي انقطع في يأس شديد الى التحصيل العلمي والتقني والمعرفي ليشفي غليل القمع المخزون ويعوض عما خسره في خضم صراع الديكة بين حاكم ومحكوم.

رابعا: ما ضر دعاة الفكر والتنظير وقادة الرأي والسياسة أن يتواضعوا الى هذا الجيل فيحاوروه ويردوا على تطلعاته في هدوء وايجابية ;أو لن يزيدهم هذا المسلك عزا وفخارا بين أهلهم وذويهم ومحبيهم أم انها نرجسية الانتلجنسيا العربية التي لا ترى الا نفسها وتعمي البصيرة عما يدور حواليها.

ان كريم الأخلاق والرجوع الى حقيقة منشأ الانسان ونهاياته أضف الى ذلك أرضيتنا العقدية والدينية التي نتشرف بها تقتضي منا مزيدا من التواضع الى الخلق والرفقة بالمواطن وعدم ممارسة أهواء السلطة ونزواتها التي لا تورث الحاكم الا المهالك والمحكوم الا الهوان.

خامسا: وهذه ملاحظة موجهة للنهضة على وجه الخصوص والى المعارضة ولو على سبيل الايماء :ان ممارسة سلوك الانتقاء في التعاطي مع الأحداث قصد ترجيح موقع جناح على حساب آخر هو منطق ظالم في عكس المواقف والآراء. ففي الوقت الذي مل أبناء النهضة كحزب والتونسيون كانتماء حصر نضالاتهم وتطلعاتهم في الحديث فقط عن ملف المساجين السياسيين على عظمة هذا الملف, تحاول بعض الجهات البحث المتجدد عن نقاط اشتباك جديدة بين السلطة والمجتمع المدني كي تعزز بها اختياراتها وكي تجعل منها مسمار جحا تبرر به ما أقدمت عليه من سياسات ومواقف زادت الطين بلة في جحيم هذا النزيف النتن بالصراعات.

سادسا: اننا نقدر كجزء من هذا الضمير الجمعي الحي نضال المحامين التونسيين من أجل تحرير المحاماة من هيمنة الجهاز القضائي المسيس والارتقاء بهذه المؤسسة الوطنية الى أعلى درجات الدفاع عن حقوق المواطنة ولكنني أدعو عقلاء تونس الى تحكيم منطق العقل والحكمة في معالجة قضية الأستاذ محمد عبو وزملائه الأساتذة فوزي بن مراد وسنية بن عمر وهو ما يدعو السادة المحامين كما يدعو سلطة الإشراف قبل ذلك الى التحكم في مجريات صراع مسيس لن نجني من ورائه الا إسقاط قلعة أخرى من قلاع الحرية وهي نقابة المحامين…ولا بد أن أذكر سلطة الإشراف في تونس الى أن مثل هذا السلوك المتشنج في التعاطي مع هذه الأزمة لن يصب الا في صالح أعداء المصالحة الوطنية الشاملة وخصومها.

سابعا وأخيرا: نذكر أن جملة ما أوردناه من مواقف وآراء وان كان في ظاهره شخصي الا أنه يعكس جملة من التصورات طورناها على ضوء جملة من الحوارات مع كثير من الأصدقاء سواء تموقعوا في المعارضة أو التزموا خيارات سياسية قريبة من السلطة وما تطرحه من مشاغل مع احتفاظهم برغبة في عدم المشاركة فيها ولكن مع رغبة في ابداء النصح .

وبعد ذلكم كله نجدد الشكر لكل هؤلاء من الذين ساهموا في تطوير هذه الرؤى وألحوا علينا في أكثر من مرة على أن نتكلم باسم الضمير المغيب في حمئة كل هذا الصراع.


أخوكم مرسل الكسيبي

ألمانيا الاتحادية، في 29 ربيع الأنور، الموافق لـ 7 ماي من سنة 2005