ما نعنيه بالضبط من خلال طرح مسألة العقل هو مصير العلم التجريبي القابل للاستثمار والمؤدي إلى تطوير المجتمع عن طريق تعميم النشاط الصناعي وما يترتب على ذلك التعميم من تحولات في ميدان التربية والتعليم والتنظيم. هدفنا الحقيقي ليس العقل الفردي إذ يمارس قدرته على اختزان المعارف، بل العقل المجتمعي المجسد في سلوك جماعي قارّ ومنتظم. مهما تكن صحة النتائج التي حصلنا عليها في شأن ارتباط المنطق بالعلم الحديث، سلباً أو إيجاباً، في الغرب المسيحي وفي العالم الإسلامي.

الواقع هو أنه يصعب في كل الأحوال ربط موقف نظري بنتيجة عملية. العلم الذي نعنيه في هذه الدراسة هو علم صناعي، علم المخترعات المستثمرة في الصنائع، ما يسمى اليوم بالتكنولوجيا التي يقال عنها إنها نوع خاص من المعرفة. رغم كل ما قيل ولا يزال يقال لا أحد يستطيع أن ينسب دائماً الفتوحات التكنولوجية إلى اختراعات علمية محددة. وإذا كان هذا هو العلم الذي يهمنا بالدرجة الأولى هنا، ما علاقته بالمنطق الذي هو موقف نظري، حتى وإن كان استقرائياً، خاضعاً للتجربة الحسية؟ هذا أمر لم يتيسر لأحد الفصل فيه.

حتى لو افترضنا أن العقل في مفهومه الإسلامي يوافق تمام الموافقة العلم النظري، وعند هذه النقطة بالذات يقف مفكّر عهد الإصلاح ومن يتكلم اليوم بلسانه، يبقى علينا أن نطرح سؤالاً آخر، أهم وأدق، وهو المتعلق بعلاقة ذلك العقل بالسلوك، لا السلوك الفردي (مجال الخلاق كما في ميزان الأعمال للغزالي)، بل السلوك الجماعي (مجال الاجتماع والتأريخ)، أي سلوك المسلمين وهم يتحاكمون (السياسة/ الإمارة)، وهم يتبادلون (الاقتصاد/ المعاش)، وهم يتحاربون أو يحاربون (الحرب/ الجهاد).

وصيغة السؤال هي: هل منع التأويلُ الإسلامي للعقل التدقيق في مفهوم العقل العملي وتمييز الفردي عن الجماعي، أم لا؟

واضح إذن أن الصعوبة الحقيقية تبدأ حيث يتوقف مفكر عهد الإصلاح، ووارثه المعاصر، حيث يظن كلاهما أن المجتمع الإسلامي عقلاني ما دام الإسلام يعلي من شأن العقل النظري ولا يمنع توظيفه لاكتساب علم يقيني.

ومن يقودنا في دروب هذه المسألة الشائكة سوى ابن خلدون الذي حاول جاهداً أن يكتشف قواعد ذلك العقل العملي الجماعي؟ ولئن واجه صعوبات جمّة جعلته يتعثر في إنجاز مشروعه، أو لا تكون هي نفسها صعوبات “العقل” الإسلامي؟.

…………………………….

المصدر : مفهوم العقل.