منذ حوالي أربعين سنة و تحديدا في سنة 1966، كنت أسكن الحيّ الجامعي في مدينة نانصي بشرق فرنسا. ذات ليلة، سمعت طرقا خفيفا على الباب، أشبه ما يكون بالنّقر. و استغربت الأمر خاصة و قد كانت الساعة متأخّرة و الطّرق ليس بالذي أعرفه لزوّاري من الأصدقاء و الجيران.

فتحت الباب فإذا بشاب في عمري، يعتذر على إزعاجي في تلك الساعة و يشرح لي أنّه ما كان ليجرؤ على طرق الباب لو لم ير الضوء من تحته، و طلب منّي إن كنت مستعدّا لأتحدّث معه لحظة. فرحّبت به و أدخلته البيت و دعوته للجلوس.

و بادرني بالسؤال إن كنت حقّا تونسيًا، فقد قرأ ذلك على ملصقة على الباب و لم يُصدّق بالكامل. و أكّدتُ له ذلك، فبدى عليه الانشراح و كأنّه لقي أخًا أو صديقًا فقده منذ زمن طويل. و بعد كثير من الحركات الدّالة على حرجه و تردّده في الإفصاح عن أمره، نطق باسمه. و لم يكن أسمه بالغريب عنّي. فقد كانت عائلته معروفة في مدينة سوسة. و ما إن أضاف اسم والده و مهنته حتى فهمت القصّة كاملة قبل أن يكشف بقية صفحاتها. فقد كانت قصّة والده حديث أترابي في المعهد الثانوي للذكور بسوسة على مدى السنوات التي عقبت الاستقلال.

و هي قصّة مثل مئات القصص التي تحدث لمواطني بلدان و مجتمعات تتعرّض للاستعمار و الهيمنة الأجنبية، و يعرف فيها الناس مآسي التّقطع النفسي و التّمزّق الوجداني في انتماءاتهم و ولاءاتهم.

يأتي الاستعمار و بعد التقتيل و الحرق و التّدمير، تهدأ له الأمور و يحطّ رحاله و سرعان ما يبني شبكات علاقاته و شراكه و أعشاشه فيقع فيها الأغبياء و الأذكياء على السّواء. ثم يبيضّ و يفقس البيض و تخرج أجيال من الفراخ الهجينة أشخاص لا هم من البلد الأصلي و ثقافته و منظومته الحضارية، و لا هم أيضًا من أبناء الاستعمار الخلّص. مزيج من هذا و ذاك، تماما كسكّان المناطق الحدودية في ارتباطات مصالحهم و ولاءاتهم. و لكن في المواعيد الحاسمة و عندما تحصل القطيعة، يضطرّ هؤلاء للاختيار الطّرف الذي يلتحقون به و يربطون به مستقبلهم و مصيرهم. هناك من يتعلّق بالبلد الذي نشأ فيه و يلزم مكانه و يحاول أن يتأقلم مع الظروف الجديدة. و هناك أيضا من يدير الظهر لأصوله و جذوره و يخيّر القفز عليها و التّوجه إلى ما يحسبه المستقبل و يخرج مع المستعمر لشدّة التّعلق بقيمه و أنماطه المعيشية و الحضارية.

ما من استقلال بلد عربي أو أفريقي أو آسيوي أو جنوب أمريكي، إلاّ واقترن بموجات من هجرة بعض أصيلي هذه البلدان ممّن ربطوا مصيرهم بالمستعمر القديم و تبعوه في تراجعه إلى دياره. و لكنّ الذي لم يفكّر فيه هؤلاء المهاجرون هو أنّ اختيارهم ذلك يلزم أطفالهم من بعدهم. و ما لم يفكّروا فيه أيضًا، هو احتمال أن يلعنهم أطفالهم يوما على اقتلاعهم من أرضهم و توريطهم في اختيارات مصيرية من هذا النوع.

و كان زائري في إحدى ليالي سنة 1966 من هؤلاء الذين اقتلعوا من أرضهم و هم أطفال، يوم لم يكن لهم رأي فيما اختار لهم أولياء أمورهم. فقد اختار والده أن يرحل به و إخوته إلى وطنه الجديد و طوى صفحة ما ضيه و تصوّر ألاّ أحد من أطفاله سيحاسبه يومًا على صنيعه معهم، لكونهم لا ماضي لهم يحنّون إليه، أو هكذا تخيّل.

و لكن، وبعد عشر سنوات من رحلة القطيعة بالماضي، أفاق الشّاب على حنين جامحٍ لموطنه الأصلي و على رغبة جارفة في اكتشاف الحلقة المقطوعة من سلسلة حياته، و قطع على نفسه وعدَا باسترجاع الجنسية التونسية التي تنازل عنها والده باسمه.

و هكذا دقّ باب أوّل تونسي يلقاه، ليسأله عن أفضل و أسرع الطرق للاسترجاع حقّه الذي فرّط فيه والده. و أشرتُ عليه بجملة من الأعمال و المراسلات و الإتصلات، فكتب إلى السفارة التونسية في باريس و إلى وزارتي الخارجية و العدل و إلى كتابة الدوّلة للرئاسة و إلى الرئاسة، و كلّف محاميا و بعث بأوراق و وثائق و شهادات إلى كل هذه الدوائر. و تمكّن في نهاية الأمر و بعد حوالي السنتين من استرجاع حقّه في الجنسية و الحصول على بطاقة تعريف و جواز سفر…

و اعرف كثيرا من الحالات لبنات و أبناء معارضين تونسيين، قضى آباؤهم في المنافي، و استطاعوا الحصول على جوازاتهم و زيارة أهل لا يعرفون عنهم في الغالب إلا القليل. فعلوا ذلك للاكتشاف أصولهم و التعرّف على جذورهم و استكمال بناء شخصياتهم و دفن بعض أوهامهم.

و أذكر في شبابي أحد جيراننا، المرحوم حامد منصور، من قدماء “صوت الطالب الزّيتوني” و ربّما أيضًا من أنصار اليوسفيّة، هاجر إلى مصر بداية الاستقلال، و نشط في المعارضة التونسية هناك، و تزوّج و أنجب و توفي و دفن في مصر. و في بداية السبعينات، أصرّت أرملته على المجيء لأوّل مرّة، هي و أطفالها، للتّعرف على الوسط الذي نشأ فيه الوالد و الزّوج. و تمّ ذلك بسهولة، حيث منحت السّلطات التونسية الجوازات للأطفال. فالأب لم يتنازل عن جنسيته و لم يقطع مع هويّته، و إنّما هاجر بلاده التي ضاقت عليه و هرب من سلطة قمعته هو و أمثاله.

و لم تكن معاملة السّلطات التونسية لأبناء و بنات معارضيهم في الخارج دائمًا بهذه الأريحية.

و يبدو أنّه كلّما كبرت أهميّة المعارض، ازدادت النّقمة على ذرّيته. من ذلك ما حدث في سنة 1986 لأبن المرحوم إبراهيم طوبال. فقد طلب هذا الشاب الذي كان يقيم آنذاك في الجزائر جواز سفر من السّفارة التونسية في الجزائر العاصمة، و وصل طلبه الوزير الأوّل محمّد مزالي الذي وافق كتابيًا على منحه حقّه، إلا أنّ الرئيس بورقيبة أبطل الأمر و كذّب وزيره الأوّل.


لما هذا التخريف؟

لأنّه و في بعض وجوهه، قضيّة الساعة لكثير من الأطفال التونسيين الذين وجدوا أنفسهم ذات يوم، مقطوعين عن وطنهم و محرومين من معرفته بقرار من أوليائهم و بإمعان السّلطة في الانتقام.

في الخمسة عشر سنة الأخيرة، فرّ مئات التونسيّين من قمع السّلطة و غادروا بلادهم إلى بلدان أرحب و نظم سياسة أرحم، و نظّموا التحاق عائلاتهم بهم، و قد أصبح الشباب منهم كهولا و تزوّجوا و أنجبوا، و منهم آباء أصبحوا الآن أجدادا. و كثير من لاجئي التّسعينات حصلوا على جنسية البلدان التي احتضنتهم و أسّسوا لإقامة مستقرّة فيها و لم تعد تونس بالنّسبة للكثير منهم سوى ذكريات طفولة و شباب و وجهة سياحيّة متميّزة.

وهكذا أمكن للعديد منهم و حتّى لمن صدرت ضدّه أحكام غيابية في تونس، أن يسوّوا قضاياهم مع أجهزة الأمن و يفتحوا صفحة جديدة في حياتهم و حياة أطفالهم، علما بأنّ الكثير منهم بدأوا بامتحان موقف السّلطة في السنوات الماضية من خلال استخراج وثائق تونسية لأطفالهم و زوجاتهم و إرسالهم إلى البلد في العطل.

و لقد تكثّفت في السنتين الأخيرتين حركة الرّجوع إلى تونس للاقتناع الكثيرين بأنّ لا مبرّر للاستمرار في قطيعتهم مع وطنهم. و من بينهم نفر كبير لا يذكر لهم نشاط في المعارضة السّياسية، و منهم أيضا من اعتبر أنّ دوره في الخارج قد انتهى و منهم من يئس من كل دور للمعارضة في مستقبل الأيام…

و كلّ هذه الأسباب و غيرها تبرّر رجوعهم إلى الوطن و للزيارة على الأقلّ، و قد تفاعلت السلطة بكثير من الذكاء مع أغلب الحالات، فمنحت جوازات السّفر و استقبلت أصحابها بأقلّ مستوى من العدوانية: بضعة أسابيع من التحقيقات أثناء الدّوام الإداري و مراقبة خفيفة، ثم تطوي الملفّ! وهكذا تسهّل رحلة الصيف السياحية للمعارضين القدامى و أطفالهم.

و يتم كل هذا مع استمرار القمع، بأقلّ حدّة ممّا عرفنا في التسعينات، لكنّه قمع مستمرّ. و تتمّ رحلة الصيف للمعارضين القدامى و أطفالهم في نفس الوقت الذي يهرب فيه من تونس عشرات طلاّب اللّجوء و آلاف طلاّب الرّزق.

غير أنّ هذه الأريحية التي تعاملت بها السّلطة مع النّهضويين و مع بعض المعارضين من الجماعات الماركسية و بعض المنفيّين القدامى من شخصيات نظام بورقيبة، لم ترقى إلى مستوى القاعدة العامة الثابتة. فقد دفع المرحوم علي السّعيدي حياته، ثمنا لتصديقه بأنّ النظام قادر على نسيان العمل الإعلامي الكبير الذي بذله طيلة سنوات لكشف حقائق الممارسات و الانتهاكات الرّسمية. و إنّي لا أحسب أنّ النظام يقدر يوما نسيان ما بذله و يواصل بذله رجل مثل المنذر صفرـ الذي لا أعتقد أنه ينوي الرجوع إلى تونس في الظروف الحالية ـ و دليلي في ذلك ما ألمسه من إمعان السلطة في الانتقام حتى من أحفاد المعارضين.


سليمان، أيوب، إيناس، إلياس و مريم و آخرون قادمون:

هؤلاء أحفادي، ولدوا في فرنسا و لا أحسب أنّ من في أعمارهم يعي ما تعنيه تونس، و لا أحسب أنهم مع السنين عندما يصبحون شبانا و شابات، سوف يرون في تونس أكثر من بلد الآباء و الأجداد أو أنهم سيستحضرون الأسباب التي أدّت بآبائهم و أمهاتهم – فما بالك بجدّهم و جدّتهم ـ إلى هجرة وطنهم و العيش في المهجر و المشاركة في جعلهم فرنسيين في يوم من الأيام.

لكنّ هؤلاء الأطفال هم الآن تونسيّون و سيبقون كذلك حتى لو حصلوا يوما على جنسية أخرى، لأنّهم ولدوا تونسيّين. و لا أحد ممّن أورثهم هذه الجنسية ـ أبٌ و أم ـ تنازل عن تونسيّته قبل ميلادهم و حرمهم هكذا من التمتّع بها.

منذ نهاية السنة الماضية و النّقاش دائر في عائلتي حول مشروع زيارة حفيدي، سليمان ـ 5 سنوات ـ و أخوه أيوب ـ سنتان ـ للتّعرّف على جدّيهما من الأب و باقي عائلة والداهما و ربما أيضا بعض الأطراف من عائلة الأمّ. و اتّفق الجميع على إنجاز المشروع و بدأت رحلة جمع الوثائق للوالدين في تونس و إذا كانت هذه الرّحلة شاقة في الظروف العادية فهي أشقى عندما يكون الوالدان من اللاجئين السياسيين، و تمّ الأمر بسلام و جهّز الملف و قدّمت الأمّ طلب جواز السّفر لأبنيها إلى القنصلية التونسية…

ولقد انتظرت الأم و انتظر معها الجميع، و عاودت القنصلية بالهاتف و بالاتصال المباشر مرّة و حتى مرّتين في الأسبوع و نصحوها بالصبر لكون القرار يأتي من تونس، ثم ذات يوم و بعد انتظار حوالي أربعة اشهر من تقديم الملفات، زارت الأمّ القنصلية فأعلمها الموظّف أنّ جواز سليمان فقط قد وصلهم، أمّا أيّوب فعليه أن يصبر!! و هل يحتاج أيوب لمن ينصحه بالصبر؟

و طبعا، تأجّل مشروع الزّيارة إلى السنة القادمة، في انتظار أن تفضي تحقيقات المصالح المختصّة إلى تبرئة ” أيوب” من كلّ التهم و الشكوك، و ربما بعثت له بجواز دبلماسي بطائرة خاصة كما فعلته في مثل هذا الوقت تقريبًا منذ 14 سنة، مع تونسي شهير، أوقفته السلطات الفرنسية في مطار أورلي بتهمة تهريب المخدّرات، و أمكن بذلك تحصينه من كل ملاحقة قضائية.

——————————–

* اللجنة التونسية للمطالبة باستقالة بن علي و تشكيل حكومة ائتلافية للإنقاذ الوطني تأسّس في جانفي 1993 بباريس