حول “القمة” العربية و مسألة “الاصلاح العربي”

لا يمكن التشكك و لو للحظة أن الحكومة التونسية قد حاولت استثمار استضافتها للقمة العربية الاخيرة (و التظاهر بعدم الرغبة لاستضافتها) لخدمة حسابات خاصة تجاه علاقاتها بالولايات المتحدة. و من دون الانغماس في التحاليل المغالية في التبسيط (التي تذهب الى حد الحديث عن تلقي الرئيس التونسي أمرا امريكيا بإرجاء القمة) يوجد من الادلة ما يكفي لتبين رغبة الحكومة في الترويج للاعتقاد الخاطئ بأنها أرجأت القمة لأنها كانت تدافع عن تبني “برنامج اصلاحي” قريب من مشاريع الولايات المتحدة “الاصلاحية”.

كما لا يمكن التشكك في التناقض الصريح بين الموقف الرسمي التونسي خاصة في علاقة بدفاعه المستميت عن حقوق الانسان امام الاشقاء العرب مقابل الانتهاك الفعلي المنظم و المستديم لهذه الحقوق في علاقة بالمواطنين التونسيين بما في ذلك خلال ايام التحضير للقمة.

و لم تنجح المناورة التونسية في التقليل من الضغظ الامريكي في مسألة الحريات. فقد أرسلت الولايات المتحدة اثر قرار التأجيل بإشارات واضحة تدل على أنها لن تتغافل عن الانتهاكات المستمرة لحقوق الانسان في تونس و هو ما انعكس في الانتقادات القوية التي وجهتها وزارة الخارجية الامريكية بداية شهر ماي للحكومة التونسية في علاقة بوضع حرية الاعلام و مما استفز الأخيرة على غير العادة للقيام باحتجاج رسمي مكلف لدى الخارجية الامريكية.

غير أن التأجيل كان يتعلق و لو جزئيا بمسألة أخرى من الضروري التعريج عليها: موقف الاحتقار لدى بعض المشارقة و خاصة الخليجيين منهم تجاه تونس بشكل عام بغض النظر عمن يحكمها. فباستثناء أمير قطر لم يحضر أحد من “ملوك” الخليج الى تونس. و في الوقت الذي يسارع فيه “ملك” البحرين أو “أمير” الكويت أو “عاهل” السعودية للالتقاء مثلا بالرئيس المصري في شرم الشيخ و عقد “قمم ثلاثية و رباعية” فإن هؤلاء لم يروا أي مانع من التغيب عن “قمة تونس” (كما تحرص على تسميتها الصحافة الممولة خليجيا) في وقت كان من أقل الايمان خاصة بالنسبة للوضعين الفلسطيني و العراقي أن يحضرها كل القادة العرب لتوفير حد أدنى من المصداقية لبيانات الشجب و التنديد. فمن البديهي و بالرغم من هزال و هامشية الموقف الرسمي العربي تجاه التطور الفعلي للأحداث فإن أية موقف عربي موحد يحمل الحد الادنى من الرفض لمشاريع الاحتلال في الامة العربية و لو كلاميا يمثل نقطة ايجابية في هذا الظلام الحالك. بل ان مجرد الحفاظ على مؤسسة القمة العربية حتى ببيانات كلامية فضفاضة مهم في الظرف الحالي فالقمة العربية إنجاز تاريخي نجح الرئيس عبد الناصر بصفة خاصة في الاعتماد عليه و توظيفه ايجابيا تجاه التجاذب الدولي و خاصة تجاه نزعة الهيمنة الامريكية. وهو ما دفع الولايات المتحدة لمحاولة الالتفاف على هذه المؤسسة و حتى لإقحام تمثيل رسمي اسرائيلي فيها.

و بالرغم أن هناك اسبابا عديدة يمكن ان تفسر الغياب الخليجي (منها عدم تحمل مسؤولية التوقيع على بيانات التنديد مع دولة “ارهابية” مثل سوريا) فإن الاستخفاف الفطري الذي يعاني منه هؤلاء تجاه “الاحياء الصغيرة” (على حد وصف صحيفة الرياض السعودية لدول في حجم تونس كأن “دولة السعودية العظمى” قوة حقيقية في المنطقة بما في ذلك على اراضي السعودية نفسها) يمثل أحد الأسباب التي لا يجب التغافل عنها من هنا فصاعدا. و في الحقيقة فقد صبت صحافة البترودولار الخليجية أو الممولة خليجيا بما في ذلك صحيفة “الحياة” جام غضبها على قرار التأجيل التونسي و من المضحك أنها انتقدت الموقف التونسي في بعض المرات على خلفية “العمالة للولايات المتحدة” متناسية بذلك النصيحة العريقة التي تقول “من بيته من زجاج من الأفضل ألا يقذف الاخرين بالحجر”.

و في الواقع فقد مللنا تقوقع الخليجيين الفكري و السياسي و أصبح من الواضح أننا لم نستفد الكثير من هؤلاء. فماذا استفدنا فعليا من الانتشار أخيرا في تونس لكتابات العثيمين و غيره من شيوخ “سلفيين” الملوثة وجوههم بالنفط و ايديهم بعار التحالف مع أسرة لا يوجد من يضاهيها في التامر على مصالح الامة العربية و الاسلامية. و من بين هؤلاء و بدعمهم المباشر و غير المباشر تدعمت و انتشرت الفصائل المتطرفة و الهمجية في الوطن العربي وهو الامر الذي شوه صورة الحركات الاسلامية المناضلة و الصادقة و التي يصف شيوخ البلاط السعودي قادتها ب”العصرانيين”. ففي الحقيقة لن يعلمنا هؤلاء العمل السياسي الاسلامي و ليس من الواضح كيف ستسفيد الحركات الاسلامية المعتدلة من غبائهم الفقهي و السياسي المفضوح. كما أننا في تونس و بشكل عام لا نحتاج دروسهم في علاقة بمسألة المرأة فرغم كل مساوئ السياسة البورقيبية و التعامل الامني الراهن مع لباس الحجاب و حرية المعتقد فإن الموقف السعودي لا يحسد عليه و لا يمكن لهم أن يلقنوننا دروسا في هذا الشأن.

و حتى من الناحية الاقتصادية لا ندري ماهي الاضافة النوعية التي يقدمها الخليجيون. فأي فائدة مثلا من “بنك التنمية التونسي الكويتي”؟ فلن تتعرض السياحة التونسية الى كارثة إن تم التخلص من سلسلة فنادق “ابو نواس”. كما لن تتعرض الى كارثة اذا لم يزرنا بعض الشيوخ الصبيانيين و المتكرشين لقتل الغزال في صحارينا. فليقتلوا غزالهم في الربع الخالي و ليتركوا غزالنا في سلام. كما أن العدد المحدود من كفاءاتنا المهنية و العلمية التي يضطرون لاستيرادها و لفترات محدودة (متى لا يجدون من يقابلها من اليد العاملة الرخيصة جدا من الهند و بنغلاديش) لا تحل أزمة التشغيل في بلادنا و لا تضاهي بأية حال مداخيل اليد العاملة التونسية في أوروبا. بل أن بعض المواطنين التونسيين (خاصة من الفتيات) قد وقع التغرير بهم في الكثير من المرات عندما تم التعهد لهم بتوفير فرص عمل وهمية في الخليج حتى أن البعض منهم تعرض لاستغلال فاحش. ففي الخليج لا وجود البتة لأبسط الحقوق النقابية بل لا وجود لنقابات أصلا.

إن من واجب النخب التونسية من جميع التيارات التوقف عن التغاظي عن طبيعة النظرة الخليجية لبلادنا. و كان من واجب و حق الصحفيين التونسيين خلال “القمة” الأخيرة التعرض و بصراحة الى هذه الحمل الثقيل الممثل في دول الخليج و الدفاع عن كرامة مخدوشة تتجاوز الحاكم و المحكوم لتمس بلدا بأسره عدى عن أنها تمس الامة العربية عامة المبتلاة بهذا النوع من “الملوك”. و قد كان الصحفي الامريكي بوب وودوورد قد فضح في كتابه الاخير “خطة هجوم” الدور الخليجي (و خاصة السعودي) في التحضير مبكرا و بالتفاصيل للحرب الامريكية على العراق.

إن مسألة طبيعة العلاقة مع الدول الخليجية مرتبطة بمسألة النقاش حول مسائل “الاصلاح” على المستوى العربي. ففي الواقع لا يمكن أن توجد أجندة موحدة تماما للاصلاح عربيا. و رغم كل نقاط التشابه يجب أن يكون واضحا لكل الأطراف العربية الجادة في علاقة بالاصلاح السياسي و الاقتصادي و الثقافي و من دون مجاملات أنه لا يمكن أن يوجد جدول أعمال موحد في تفاصيله توقيتا و ترتيبا خاصة في علاقة بدول المغرب العربي مقارنة بالخليجيين. و على سبيل المثال مازال على الأخيرين أن يثبتوا نقاطا أصبحت بديهية في أقطار المغرب العربي مثل أساليب التعبير السياسي المعارض في أشكاله المعاصرة مثل التظاهر و غير ذلك (وصف وزير الداخلية السعودي نايف أحد المظاهرات النادرة الأخيرة في السعودية ب”نباح الكلاب”) ففي هذه الدول (ربما باستثناء البحرين) مازالت حتى مفاهيم الأحزاب و العمل الحزبي المنظم و المؤسساتي طرية جدا و في طور النشأة (من الجدير التذكير هنا أن شيوخ البلاط من العثيمين و غيره و في توافق مفضوح مع مصالح ال سعود يواصلون التـاكيد على “كفر بدع” مثل الديمقراطية و التحزب).

المسألة الأخرى التي أثارتها “القمة” الأخيرة كانت “الغضب المصري” جراء رفض رئاسة القمة (تونس) مناقشة مقترح الرئيس مبارك حول “الية عربية لمراقبة الاصلاحات”. و كما أشار الى ذلك صحفيون مقربون من الرئاسة المصرية انذاك فإن المقترح المصري كان يهدف الى الالتفاف على “الالية” التي تنوي الولايات المتحدة اعتمادها في “مراقبة الاصلاحات”. و قد تعرضت بالتفصيل و من خلال النموذج التونسي في العدد الاخير من “أقلام أون لاين” الى مسألة الارتباط بين مخططات إعادة الانتشار العسكري لدى الولايات المتحدة في المنطقة العربية و الاسلامية و مشاريع “دمقرطة” الشرق الاوسط, و أكدت على أهمية الحلف الاطلسي كاطار شكلي من المنتظر أن يشرف على هذه المشاريع. و طبعا من الواضح أن القيادة المصرية تحاول الالتفاف على المقترحات الامريكية و الظهور بمظهر من “يعارض التدخلات الامريكية” و يقف بحزم “ضد” الولايات المتحدة. إن المقترح المصري يشير بوضوح الى قلق الرئيس المصري على موقعه و من يحضر لهم لوراثته مما تخطط له الولايات المتحدة و من غير الضروري التأكيد على أنه ليس “الطابع الخارجي” للمشاريع الامريكية هو ما يثير قلق القيادة المصرية بل تهديدها لاحتكار الحياة السياسية من قبل الحزب الوطني الحاكم. و طبعا تحاول القيادة المصرية ان تتناسى انها تتلقى منذ اتفاقية كامب دافيد واحدة من أكبر المساعدات الامريكية المباشرة لأي دولة في العالم و أنها شاركت بنشاط في مختلف المشاريع الامريكية السياسية و العسكرية في المنطقة طيلة الثلاثين سنة الأخيرة. فمواجهة المشروع الامريكي للإصلاحات ليس من خلال التهرب من الاصلاحات و إيجاد اليات بديلة للتمويه بل بالمبادرة بتلك الاصلاحات و التي تعبر عن تطلعات غلبية الشعب العربي. فالغضب المصري في هذا الاطار غير مبرر و يهدف الى إبعاد الأنظار عن القضايا الاساسية و الايهام بدور “وطني و قومي فعال” للقيادة المصرية. إن مؤشرات كثيرة (تحديدا مقالات ابراهيم نافع اواخر شهر ماي و التي تتحدث عن ضرورة “توسيع العلاقات الخارجية لمصر” و عدم التوقف عند الولايات المتحدة) تدل أن القيادة المصرية تشعر بتهديد حقيقي من المشاريع الامريكية, و علينا أن نفهم هنا أن هذا التهديد لا يتوجه تحديدا لمسألة “استقلال القرار المصري”—ففي علاقة بالوضع القومي و دور مصر الايجابي تجاه قشايا الامة تعرض “استقلال القرار” هذا الى نكسة كبيرة و مزمنة منذ كامب دافيد) بل تستهدف أساسا طبيعة النظام الحالي و الذي يتسم بتوجه حقيقي نحو إبعاد القوى السياسية المصرية عن الساحة و اختزال الحياة السياسية في سياسات الرئيس المصري و قراراته.
ديمقراطية الولايات المتحدة و مبادراتها ل “الاصلاح العربي”

لا يجب ان يدور في بال أحد أية شكوك حول أن الولايات المتحدة تتمتع بأكثر الأنظمة السياسية ديمقراطية في العالم. و باستثناء قلة من المتأدلجين و المثقفين الهامشيين فلا يوجد من يدعي أن هذه الديمقراطية مثالية و كاملة. فالديمقراطية الامريكية و أكثر من أي بلد غربي اخر تتميز بعلاقة تبعية قوية للنظام الاقتصادي الرأسمالي في أكثر مشاهده الليبرالية (و التي تكون متوحشة في بعض الأحيان و على سبيل المثال لا يتمتع عدد هائل من الأمريكيين بالحد الأدنى من ضمانات العلاج الصحي) فحرية الاعلام على سبيل المثال متأثرة بشدة بالمفهوم التجاري للعملية الإخبارية و بارتباطها بتروستات مالية قوية تملك أكثر القنوات الاعلامية انتشارا. و رغم المحدودية الكبيرة للقنوات المتصلة بالحكومة و الممولة من قبلها فإن المؤسسات الخاصة المسيطرة على الساحة الاعلامية المرئية و المكتوبة (سي. ان.ا ن. و أي. بي. سي. و ان. بي. سي. و الواشنطن بوست …الخ) تلتزم في أحيان كثيرة بالخط العام للحكومة الامريكية الى الحد الذي تساهم فيه بالتعمتيم الاعلامي في بعض الأحيان, فهي في النهاية مملوكة من قبل نفس التروستات المالية التي تمول و تدعم الحزبين الرئيسيين الجمهوري و الديمقراطي (مع ملاحظة أن هذه التروستات مرتبطة بالحزب الأول أكثر من الثاني و لهذا يمكن أن نجد أصواتا أكثر صدقا و نزاهة في الحزب الديمقراطي من الجمهوري). لكن لا يمكن بأية حال أن توجد قنوات و مصادر اعلامية بمستوى تخلف و تبعية مثلما هو الحال في الأنظمة الدكتاتورية التقليدية ففي النهاية يوجد دائما ما يعبر عن الصوت المعارض إذا كان له من الأنصار العدد الكثير و بما أن حرية التظاهر و التعبير مكفولة فإن الأصوات المعارضة استطاعت و تستطيع ان تقتحم هذه القلاع الاعلامية. بالإضافة الى ذلك فإن مثل هذه الأصوات استطاعت تأسيس وسائل فعالة في التبليغ و الاعلام خاصة عبر الانترنت. و عموما فرغم عدم وجود ديمقراطية مثالية في الولايات المتحدة فلديها ديمقراطية وظيفية و قادرة على الحياة و الصمود بشكل طويل و التطور باستمرار بخطى ثابتة.

إن هذه المقدمة ضرورية للرد على أولائك الذين يتعاملون مع المشاريع الامريكية في خصوص “دمقرطة” الوطن العربي من زاوية أن الولايات المتحدة حسب رأيهم هي “اخر من يستطيع ان يعطي دروسا في الديمقراطية”. فإذا كان الرد على المشاريع الامريكية يستند على هذه النقطة فهو كلام فارغ. فنعم هناك في الولايات المتحدة و في داخل الأوساط المؤثرة من يؤمن فعلا بمزايا الديمقراطية و بحق كل شعوب العالم في التمتع بها و ذلك من زاوية براغماتية بحتة و أبرز دليل على قوة هذا الاعتقاد هو صمود الممارسات الديمقراطية داخل الولايات المتحدة في فترة الصراع مع المعسكر السوفياتي في الوقت الذي كانت فيه شعوب الكتلة الشرقية تعاني من قمع مستديم: ففي الوقت الذي كان يمكن فيه للحزب الشيوعي الأمريكي و حتى لقوى يسارية اكثر راديكالية بالتنظم و التظاهر في الولايات المتحدة بالرغم من المضايقات التي تعرضوا لها لم يكن من الممكن لأي طرف سياسي يختلف و لو شكليا عن الأحزاب الشيوعية المركزية في المعسكر الاشتراكي من التواجد و كان اي معارض سياسي هناك مهدد بالسجن المؤبد و حتى الاعدام احيانا.

إن الأزمة الامريكية في العراق أفضل نموذج لتعقيد مسألة الديمقراطية بالنسبة للعقل السياسي الامريكي ففي الوقت الذي أثبتت فيه ممارسات امريكية عديدة (تعيين موالين لها كحكام و تعذيب العراقيين و اهانتهم بكل الاشكال بالاضافة للمجازر المختلفة التي ارتكبتها القوات الامريكية) ان الولايات المتحدة لا تنظر دائما نظرة كونية لتطبيق الديمقراطية السياسية فإن هناك في النظام السياسي و الاعلامي للولايات المتحدة ما يكفل افتضاح هذه الممارسات و هذه الرؤية و من ثمة تكوين رأي عام ضاغط عليها مما يساهم في التصدي لها. و طبعا لا يمكن أن يدعي أحد أن هذه الالية غير مهمة و أن “الضرر قد حصل” و الى غير ذلك من الافكار التي تتجه لنفي الصفة الديمقراطية تماما عن الولايات المتحدة. و من دون الدخول في مقارنات سوريالية بين أنظمة عالمثالثية تتعامل مع مواطنيها بعقلية “الرعية” و “الراعي” أو “ولي الامر” و دولة ذات تقاليد عريقة في الممارسة الديمقراطية (فهدذ المقارنات غير ممكنة لدواعي تاريخية) يجب التعامل مع الديمقراطية الامريكية بشكل جدلي و ليس بطريقة “إما أبيض أو أسود”.

و الان ماذا تقترح اهم الديمقراطيات في العالم على الشعوب العربية و الاسلامية في علاقة بمسألة إصلاح الأنظمة السياسية و الاقتصادية و الثقافية؟ و هل يمكن وصف هذه المقترحات و المشاريع بأنها حلول ممكنة و مساعدة على التقدم و التخلص من التخلف الفكري و السياسي؟

أولا لا تدعي أي من المبادرات الامريكية الحل الجذري للمشاكل العربية و كما توضح المبادئ الرسمية المعلنة لهذه المبادرات (أنظر هذه المبادئ في مواقع الانترنت الخاصة بالبيت الابيض و الخارجية الامريكية) فإن ما يتم اقتراحه الان يتعلق ب”المساهمة” و “الدفع” في حل هذه المشاكل. و من المهم أن نلاحظ هنا أن هذه المبادرات ليست موجهة حصرا للحكومات القائمة بل هي موجهة أيضا لمكونات المجتمع المدني بما في ذلك المنظمات المحلية لحقوق الانسان و الأحزاب السياسية و حتى للمنظمات المهنية بما في ذلك المؤسسات التي تعبر عن قطاعات اجتماعية اساسية مثل رجال الاعمال و العمال و المرأة. و هذه نقطة مهمة حيث تشير الى نية أمريكية واضحة لتجاوز الأنظمة القائمة و التعامل مباشرة مع الأطراف التي يمكن أن تعبر عن معارضة معينة و بأي قدر للحكومات العربية القائمة أو تعبر عن طموحات قطاعات شعبية معينة ليس بالضرورة من خلال منظار الحكومات القائمة. و تأتي هذه الرؤية في إطار تحليل سائد في الاوساط الامريكية المؤثرة في خصوص مسألة كيفية انجاز التحول الديمقراطي في ظل أنظمة دكتاتورية, و هو تحليل عبر عنه بشكل شامل و بدقة فرانسيس فوكوياما في مؤلفه (المفهوم بشكل محدود في الاوساط العربية و المقروء بقلة) “نهاية التاريخ و الانسان الأخير”.

فقد وضح الاخير أن تجارب التحول الديمقراطي في العقود الأخيرة و خاصة إثر سقوط جدار برلين لم تكون ممكنة إلا من خلال تظافر قطاعين أساسيين في تلك المجتمعات: قطاع داخل الحكومات القائمة نفسها و قطاع من الاطراف المعارضة المعتدلة و غير العنيفة. و بفعل أن المبادرات الامريكية المذكورة اعلاه تتعامل مع حكومات المنطقة نظريا (كما وضحت كوندوليزا رايس ذلك من خلال الدعوة لاتفاقيات مشابهة ل “معاهدة هلسنكي”) مثلما تعاملت مع حكومات المعسكر الاشتراكي فإن هناك تشابها معينا بين السياسة التي تم اعتمادها في علاقة بالحرب الباردة و بالمرحلة الراهنة. حيث سيتم الحفاظ على مستوى معين من التعاون و الضغط تجاه الحكومات القائمة بهدف تفكيكها من الداخل في نفس الوقت الذي ستم فيه دعم أطراف معرضة معينة و بالرغم أن تلك الأطراف المتذيلة تماما للولايات المتحدة ستتمتع في ظروف معينة بالدعم الاكبر فإن ذلك يمكن أن يتغير في أي لحظة حسب توازنات كل قطر و كل ساحة سياسية (نموذج التعامل مع أحمد الجلبي مليء بالدروسفي هذا الاطار). و هذا التوجه و بغض النظر عن انعكاساته السلبية و الايجابية على مسار الاصلاح الفعلي في الوطن العربي يمثل تغييرا استراتيجيا كبيرا في علاقة بالسياسة الامريكية تجاه المنطقة.

غير أن هذا التغيير الاستراتيجي لم يمس العلاقة القوية التي تربط الولايات المتحدة باسرائيل, و بعيدا عن المزايدات و أية أفكار خطابية, فإن عدم المساس بهذه العلاقة يجعل من هذا التغيير الاستراتيجي محدودا و يجعل من أية مبادرات من أي نوع كانت محدودة الفاعلية و المصداقية. و بالرغم أن الأنظمة العربية قد استغلت تجاهل الولايات المتحدة لأهمية الاحتلال الاسرائيلي (و الان الاحتلال الامريكي للعراق) و دوره المعادي في الجوهر لأية نزعات جدية للاصلاح من أجل تبرير تمسكها بالية الحكم الفردي و تجنب الاعتراف بالقوى السياسية الفعلية و حقها في المشاركة في انتخابات نزيهة فإن ذلك لا يعني أن التجاهل الامريكي للسياسات العدوانية الاسرائيلية يمكن ان يساعد اية دور أمريكي حقيقي في الاصلاح. و مادامت الولايات المتحدة لا ترى اية فائدة في التخلي عن دعم السياسات الاسرائليلية فإن مبادراتها للاصلاح ستتعرض لتشكيك فعال من قبل المتضررين من اية اصلاحات حقيقية بما في ذلك الحكومات العربية القائمة. كما أنها ستتعرض الى تشكيك مشروع من أولائك الذين يرون أنه لا توجد أدلة كافية تبعد مشروع “الاصلاحات” عن مجموعة المحافظين الجدد و تحديدا أهدافهم المشتبكة مع المصالح الاسرائيلية و هو ما سيبرز في أية مقترحات للإصلاح على الأقل عند التعرض للتفاصيل العملية لهذه المقترحات.

و لكن بالرغم من محدودية تأثير المشاريع الامريكية على صورتها في الساحة العربية الشعبية فإنها ستستمر في الضغط على الحكومات “الصديقة” و تحميلها مسؤولية “تصاعد التطرف” في المنطقة. و هذا ما يعني في النهاية أن الولايات المتحدة ستعمل على الضغط على هذه الحكومات سواء لقت تجاوبا و رغبة في التنسيق معها من قبل القوى العربية الحية و المؤثرة أم لم تلق. إن التجربة الامريكية في أمريكا اللاتينية تساعد نسبيا على استقراء مستقبل الموقف الأمريكي: فالتوجه الامريكي لتفكيك الدكتاتوريات العسكرية هناك بعد أن ساهمت في تنصيبها في حقبة السبعينات (مثلما هو الوضع العام في الوطن العربي) قد تم بالتنسيق مع قوى يسارية لاطالما عادتها الولايات المتحدة. إن شرط تحقق ذلك التحول كان تحديدا سقوط الاتحاد السوفياتي و التحول الاستراتيجي في خريطة التوازنات السياسية و التحالفات المحلية و الدولية و من ذلك تحديدا تغير موقع القوى اليسارية المعتدلة في امريكا اللاتينية (هذا التوصيف لا يشمل القيادة الكوبية التي بقيت متمسكة بالنسخة “الشيوعية” لليسار) من عامل تهديد رئيسي مساعد أساسا للاتحاد السوفياتي الى عامل مساعد على إعطاء مصداقية لمؤسسات ديمقراطية فعلية في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

تتمثل المعالم الرئيسية للتصور الامريكي الراهن للوضع الدولي فيما يلي: إن الحدث المماثل لسقوط جدار برلين بالنسبة للوضع العالمي الحالي و التحولات التي تعيشها السياسات الامريكية هي أحداث 11 سبتمبر. فقد كان الحلفاء العرب للاتحاد السوفياتي (العراق, ليبيا, سوريا) قد تعرضوا للهجمة الامريكية منذ بداية التسعينات بأشكال مختلفة و هو ما يجعلهم جزءا من مرحلة ما قبل 11 سبتمبر و لن تتوقف الضغوطات عليهم مهما حاولوا التأقلم (و من المفروض أن يعرف العقيد القذافي ذلك جيدا). بينما الخطط الامريكية الحالية تشمل تحديدا اولائك الذين مثلوا أصدقاء تقليديين للولايات المتحدة. فهؤلاء يقع تحميلهم مسؤولية “تصاعد تطرف” جماعات مثل القاعدة من جراء السياسات القمعية المتبعة من قبل هذه الحكومات. و في مقابل تنظيمات مثل القاعدة (تماثل في التقييم الاستراتيجي الامريكي الراهن على الاقل من الناحية السياسية التهديد الشيوعي) فإن التنظيمات الاسلامية التقليدية و المعتدلة تمثل رديفا لليسار المعتدل في امريكا الاتينية الذي استطاع منافسة التنظيمات الشيوعية الجديدة و العنيفة في امريكا اللاتينية (القوات المسلحة الثورية الكولمبية و الدرب المضيء على وجه الخصوص). فهذا التيار الاسلامي المعتدل مثله مثل اليسار الامريكي اللاتيني المعتدل قد تعرض الى قمع مستديم و منظم و طويل المدى كما انه وحده يستطيع تصدر المواجهة الفكرية و السياسية للعدو الرئيسي للولايات المتحدة. و باختصار و بالرغم من كل الاختلافات البديهية بين الوضعين فإن التحليل الامريكي قائم على القاعدة التقليدية الذرائعية و التي تقضي بأن عدو عدوي صديقي.

كنت قد تعرضت في العدد الأخير لأقلام اونلاين (العدد العاشر) الى مسألة التصور الامريكي لدور الاسلام السياسي المعتدل في المغرب العربي و تحديدا في تونس و كنت أشرت الى تعدد المواقف التي تتجاذب الولايات المتحدة. للتأكيد على هذه النقطة (أي حيوية الصراع داخل الادارة الامريكية و تحوله حسب الظروف السياسية) أود الاشارة الى معطيات أخرى. و على سبيل المثال تزايد أخيرا دور الداعية الاسلامي الامريكي حمزة يوسف (الذي يتعاون فكريا مع نوح فلدمان و الذي يحظى بصدى واسع ضمن كواليس الحركة الاسلامية التقليدية\المعتدلة) في كواليس البيت الابيض في خصوص تشكيل الخطاب الرسمي الامريكي تجاه الاسلام و حتى خارج الولايات المتحدة حتى أنه تردد في الاشهر الأخيرة اسمه ضمن عدد من الاسماء التي ستدعمها الحكومة البريطانية في إطار خطوتها لمواجهة أصوات مثل المتخلف أبو حمزة المصري. من المهم أيضا الاشارة الى أن من الاسماء التي تداولتها الحكومة البريطانية الداعية المصري المقرب من حركة الاخوان عمرو خالد. من المؤشرات الأخرى للاستعداد الامريكي على التعامل مع الاسلاميين المعتدلين كان من خلال حدث المعركة البطولية في الفلوجة حيث استطاع ممثلو الجناح السياسي للاخوان المسلمين و هيئة العلماء المسلمين من فرض أنفسهم كمحادثين عن المقاومة تجاه القوات الامريكية و من ثمة تمرير شروطها.


كلمة حول المعارضة في تونس

أخيرا من الضروري التعرض و لو بشكل عام لمسألة المعارضة في تونس. إن هناك خاصيتين أساسيتين تشكلان أهم معالم هذه المعارضة. الخاصية الاولى هي أن ال”المعارضة” التي بصدد إحداث بعض الضجيج حاليا غير قادرة و لن تكون قادرة على المساهمة بفعالية في تطوير حركة قوية تتجه بالبلاد الى الديمقراطية. يشمل ذلك الحلقات النواتية و الضعيفة سواء لأصحاب “المبادرة الديمقراطية”—و التي هي بالمناسبة مشابهة بقوة في الطروحات و حتى في الأشخاص للتحالف الذي قام في الستينات بين حركة أفاق و الحزب الشيوعي—أو ممثلي “المقاومة الديمقراطية” –و هم في معظم الأحوال خليط واسع من أفراد كانوا منتمين سابقين أو مقربين الى مجمل الحركات الغير معترف بها و الموصوفة بالراديكالية منذ حقبة السبعينات, و الذين تحسب لهم على كل حال نزاهتهم الواضحة. إن المشكل الاساسي لهاذين الجناحين هو أنهما غير قادرين على مجاراة التحولات الفكرية و الاجتماعية التي بصدد الحدوث في الشارع التونسي أو حتى تمثيلها و تحديدا على مستوى تصاعد التدين و على مستوى المشاكل النقابية. إن التركيز على مسألة حقوق الانسان بشكل مجرد و حقوقي جعل من هذه الأطراف أقرب منها الى منظمات غير حكومية منها الى أحزاب سياسية. فالتحدي الكبير الذي تواجهه هو إنجاز التحول نحو الحزب السياسي. و طبعا فطبيعة المرحلة السابقة و التي تميزت بالتراجع الكبير في الحياة السياسية و تهديد الحقوق الاساسية للمواطن جعلت من المسائل الحقوقية في صدارة الاهتمام و هذا الوضع بالمناسبة هو الذي جعل أطراف سياسية عديدة تركز على التواجد في منظمة مهنية مثل هيئة المحامين أو جمعية المحامين الشبان مما منح هذه المنظمات طابع سياسي غير مسبوق.

و بالرغم من تراجع التوصيفات الايديولوجية التقليدية على مستوى تونس و الوضع العربي فإن الأوضاع الحالية و خاصة تصاعد التدين و تزايد وطأة الأحداث في فلسطين و العراق على مشاعر الشعوب العربية تمنح للقوى الاسلامية و القومية المعتدلة دورا كبيرا و غير مسبوق. و كما نعرف فإن الاسلاميين و القوميين في تونس لم ينزلوا فعلا الى الساحة الراهنة و غير ممثلين في هذين التيارين (الحديث عن أن المنصف المرزوقي يمثل و لو فكريا التيار القومي هو كلام غير صحيح) في الوقت الذي يتعطش فيه التونسيون الى من يعبر عن طموحاتهم القومية و الاسلامية. إن فراغ الساحة السياسية من هذا المشهد يجعل من مسألة إصلاح الساحة السياسية قليل الاهمية إذا لم يندفع هؤلاء الى صدارة المواجهة السياسية. هذه هي الخاصية الاولى لوضع المعارضة في تونس.

الخاصية الثانية, و هي ترجع في جزء منها للنقاط أعلاه, هي استمرار انعزال الحركية الاجتماعية و خاصة الاضرابات النقابية المختلفة –و التي هي في تزايد ملحوظ— عن الحركة السياسية. و بالاضافة الى غياب حركية سياسية ممثلة فإن من أسباب هذا الانعزال تواصل الاشتباك التاريخي بين المنظمة النقابية الوحيدة في البلاد و الحكومة التونسية. و طبعا لا يكمن الحل كما تخيل البعض في تأسيس “منظمة نقابية جديدة”. فهذا التصور لا يعتمد على أساس الاستقواء بالاوساط العمالية و التطور في إطار ظرفية نقابية نضالية (كما كانت الحالة دائما بالنسبة لظروف تأسيس الحركة النقابية في تونس) بل هي تتعامل مع المسألة من منظور حقوقي بحت يركز على ضرورة “التعددية النقابية” بشكل مجرد عن إمكانات الواقع العمالي. فالاضرابات الأخيرة أثبتت تعلق العمال بمؤسسة اتحاد الشغل بالرغم من الروابط القوية بين الكثير من القياداة النقابية و الاوساط الحكومية. إن التركيز على مرحلية تحويل مسار المنظمة الشغيلة الى دور نضالي أكبر و أهمية الارتباط بالمؤسسات القاعدية التي تتيحها و التي وفرت دائما أطرا لدعم النضال الاجتماعي و السياسي (الهيئات الادرارية و النقابات الاساسية و الجهوية) أهم بكثير من الحديث السوريالي عن “ضرورة تأسيس نقابة جديدة” يقع تحويلها الى مجرد منظمة حقوقية تصدر البيانات العامة حول حقوق الانسان.

إن تطور دور القوى القومية و الاسلامية المعتدلة بالاضافة الى الدور الذي يجب أن تلعبه مؤسسة اتحاد الشغل سيمنح روحا حقيقية قوية للتحول نحو الديمقراطية في تونس.


* باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية.