Uncategorized

حتى عام 1996، كان صامويل هنتنجتون واحداً من الباحثين البارزين الذي اجتهد لصياغة رؤية تفسيرية، بالاستناد إلى مجريات الواقع الحضاري الذي يعيشه العالم، وبما أن كل رؤية تفسيرية تنطلق من ثابت منطقي ووجدي أحياناً، فإن هنتنجتون يعتمد مقولة (الصدام The Calsh ) كتعبير عن لحظة الصراع الذي يجري وسيستمر في أرض الواقع، لكي تكون هذه المقولة ذات دلالات عامة وشمولية فإنه يحقنها بقوة دلالية مضافة لتصبح أكثر تعبيراً عن جوهرية هذا الصدام، واتساع شموليته، فمن الصدام الحضاري إلى الصدام الكوني، ومن الصدام الجزئي، بين طرفين أو ثلاثة إلى صدام كلي تشترك فيه مجمل القوى البشرية بمختلف تشكيلاتها.

وكما هو معتاد، فإن أي مفهوم إجرائي لابد أن يشتغل في مجال ما وإلا ظل سابحاً في فضاء معطل، فالتعبير يجري ضمن مجال، فأما أن يصل إلى التطابق بين إرادة التغيير، أو يصل إلى حالة الصدام والتنافر بين الإرادات المضادة، والمجال الذي يفترض فيه هنتنجتون (التغيير والصدام) هو مجال ((الحضارات)) فالتغيير يجري في وضعية الحضارات، والصدام سيكون فيما بينها، وهنا إقصاء لرؤية الانسجام والتوائم الحضاري، وإنزال التنابذ والتنافر إلى حيزات الواقع الفعلي.

ثمة مفاهيم ذات مساس مباشر بالخطاب العام الذي يشتغل فيه كتاب (هنتنجتون) وهي: مفهوم الحضارات، مسألة الحضارة الكونية، العلاقة بين القوة والثقافة، ميزان القوى المتغير بين الحضارات، التأصيل في المجتمعات غير الغربية، البنية السياسية للحضارات، الصراعات التي تولدها عالمية الغرب، العسكرية الإسلامية، التوازن والاستجابات المنحازة للقوة الصينية، أسباب حروب خطوط التقسيم الحضاري والعوامل المحركة لها ومستقبل الغرب وحضارات العالم.

هذه المفاهيم، أو التكوينات المفهومية، تتمفصل في خمسة محاور أساسية هي:

1 ـ لأول مرة في التاريخ نجد (الثقافة الكونية) متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات، التحديث مختلف بدرجة بينة عن التغريب، ولا يُنتج حضارة كونية بأي معنى، ولا يؤدي إلى تغريب المجتمعات غير الغربية.

2 ـ ميزان القوى بين الحضارات يتغيرن الغرب يتدهور في تأثيره النسبي، الحضارات الآسيوية تبسط قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، الإسلام ينفجر سكانياً مع ما ينتج عن ذلك من عدم استقرار بالنسبة للدول الإسلامية وجيرانها، والحضارات غير الغربية عموماً تُعيد تأكيد ثقافتها الخاصة.

3 ـ نظام عالمي قائم على الحضارة يخرج إلى حيز الوجود، المجتمعات التي تشترك في علاقات قربى ثقافية تتعاون معاً، الجهود المبذولة لتحويل المجتمعات من حضارة إلى أخرى فاشلة، الدول تتجمع حول دولة المركز أو دولة القيادة في حضارتها.

4 ـ مزاعم الغرب في العالمية تضعه بشكل متزايد في (صراع مع الحضارات الأخرى) وأخطرها مع (الإسلام والصين)، وعلى المستوى المحلي، فإن حروب خطوط التقسيم الحضاري، وبخاصة بين المسلمين وغير المسلمين، ينتج عنها (تجمع الدول المتقاربة)، وخطر التصعيد على نطاق واسع، وبالتالي جهود من دول المركز لإيقاف تلك الحروب.
5 ـ إن بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على (الهوية الغربية)، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة (فريدة)، وليست عامة، ويتحدون من أجل تجديدها، والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية، إن تجنب حرب حضارات كونية يتوقف على قبول قادة العالم بالشخصية متعددة الحضارات للسياسة الدولية وتعاونهم للحفاظ عليها.

تُشير هذه المحاور إلى إن عالم ما بعد الحرب الباردة متعدد الأقطاب، يفتقر إلى تقسيم واحد ومحدد، كالذي كان أثناء الحرب الباردة، هذه الأقطاب هي (الحضارات) التي يتكون منها العالم، وهي: الصينية، اليابانية، الهندية، الإسلامية، الغربية، الأفريقية وأمريكا اللاتينية، وما يحكم العلاقات بين هذه الحضارات هو (الصدام)، هذا الصدام ينطلق ويعود بالاستناد إلى (الثقافة) أو إلى (الهوية)، ذلك ((إن الثقافة أو الهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام، هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة .. )) على أن العوامل الثقافية المشتركة والاختلافات هي التي تشكل المصالح والخصومات وتقاربات الدول، ونلاحظ إن أهم دول العالم جاءت من حضارات مختلفة، والصراعات الأكثر ترجيحاً أن تمتد إلى حروب أوسع، هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول من حضارات مختلفة، وأشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة إلى أخرى، والقضايا السياسية على أجندة العالم تتضمن (الاختلافات بين الحضارات)، والقوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً إلى الحضارات غير العربية، والسياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات.

إن رؤية هنتنجتون تتقاطع هنا كياً مع رؤية (فرانسيس فوكوياما)، الباحث الأمريكي الجنسية الياباني الأصل، والذي قال: بأن انهيار القطبية الثنائية بانهيار الاتحاد السوفيتي، كإطار للشيوعية، أدى إلى انفراد الرأسمالية والليبرالية الغربية بالعالم وهو ما يمثل نهاية الاريخ، أو بتعبيره حالياً نشهد نهاية التاريخ بما هو نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الديمقراطية الغربية على مستوى العالم كشكل نهائي للحكومة الإنسانية.

التغير في مسار التاريخ والتغيرات المتلاحقة خلال ربع قرن لم تؤد إلى حالة من الانسجام أو التوافق الواحدي الاتجاه، بل على العكس من ذلك، أخذت تُشطي هذه القطبية المنفردة إلى أقطاب أخرى، فالصراع خرج من مجال ضيق بين نظامين هيمناً على البشرية خلال خمسة وسبعين عاماً إلى مجال أنظمة متعددة ومختلفة، ومن دائرة عقائدية ممنطقة ومُعقلنة إلى مجال أنظمة وجودية فكرية ترتبط بمفاهيم مؤصلة في الذات البشرية، ذات ارتباط معيوش لا يكاد ينفصل انفصالاً كلياً عن الوجود البشري في ظهوره الشخصي مثل: العرق، الدم، الطائفة، الدين، العقيدة، التقاليد، وهي ومفاهيم تُمثل: قوى للصدام، أو هويات ثقافية أو حضارية، مؤهلة للتنازع والصدام والتصارع بها بين التعدديات الحضارية، أو القُطبيات المختلفة.

الصراع الجديد إذن صراع هويات ثقافية أو حضارية وهو الذي سيحكم العلاقات بين البشر، وفي الم يُوصف بأنه مائع ترى الناس (يبحثون عن الهوية والأمان، وعن جذور وصلات لحماية أنفسهم من المجهول)، ومع نهاية الحرب الباردة بدأت الدول في أنحاء العالم تتلمس الطريق نحو التجمع، وتجد هذه التجمعات مع دول لها نفس الثقافة ونفس الحضارة، بمعنى إن السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن على امتداد الخطوط الثقافية، الشعوب ذات الثقافات المتشابهة تتقارب والشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة تتباعد، الإنحيازات التي تعتمد على الأيديولوجية والعلاقات مع القوى الكبرى تفسح الطريق لتلك التي تعتمد على الثقافة والحضارة، والحدود السياسية يُعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية والعرقية والدينية والحضارية، المجتمعات الثقافية تحل محل تكتلات الحرب الباردة، وخطوط التقسيم بين الحضارات تصبح هي خطوط الصراع الرئيسية في السياسة العالمية.

إن إرادة البحث عن هوية والعودة إلى فيافيها، رغبة أفرزتها متغيرات العصر، ويلاحظ (هنتنجتون) أكثر من ذلك، فلقد شهدت مرحلة التسعينات انفجار (أزمة هوية كونية)، فأينما تنظر تجد الناس يتساءلون: (من نحن)؟، (لمن ننتمي)؟، (من هو الآخر)؟ وهي أسئلة مركزية، ليس فقط للشعوب التي تحاول أن تصوغ دولاً قوية جديدة، كما في يوغسلافيا السابقة، إنما على المستوى العام، هذه الأسئلة أثارت لدى الباحث أسئلة أخرى، الإجابة عنها تقتضي النظر إلى الوقائع في كليتها وشموليتها، فلماذا تُسهل العوامل الثقافية المشتركة من عملية التعاون والتلاحم بين الناس؟، هذا السؤال الذي يطره هنتنجتون يريد به التوصل إلى تفسير لأسباب تركز العلاقات بين البشر على أساس مبدأ أو مرجعية، ولغرض الإجابة عن هذا السؤال يرى:

1 ـ يوجد لدى كل الأفراد هويات متعددة، قد تتنافس مع بعضها، وقد تقوي من بعضها البعض، القرابة، المهنة، المؤسسة، الإقليم، التعليم، الحزب، الأيديولوجيا .. الخ.

2 ـ البروز المتزايد للهوية الثقافية على (المستويات الدنيا) قد يقوى بروزها على (المستويات العليا).
3 ـ الصراعات بين الجماعات الثقافية تتزايد أهميتها والحضارات هي الكيانات الثقافية الأوسع.

4 ـ البروز المتزايد (للهوية الثقافية) دفع القدرات الرائدة وقوة المجتمعات غير الغربية إلى إعادة تنشيط الهويات والثقافات الأصلية.

5 ـ أدى التحسن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلات وعلاقات أكثر تكراراً واتساعاً وتناسقاً وشمولاً بين شعوب من حضارات مختلفة، ولذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزاً.

6 ـ إن مصادر الصراع بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة كانت دائماً تولد صراعاً بين الجماعات كالسيطرة على الناس، الأرض الثروة، القوة، النسبية، أي القدرة على فرض القيم والثقافة والمؤسسات الخاصة على جماعة أخرى.

7 ـ الهوية على المستوى الشخصي، القَبَلي، العرقي، الحضاري، يمكن أن تعرف فقط في علاقتها بـ ((الآخر)) شخصاً آخر، قبيلة أخرى، جنساً آخر، حضارة أخرى.

8 ـ كلية وجود الصراع، فالكره شيء إنساني، ولتعريف النفس ودفعها يحتاج الناس إلى أعداء، منافسين في العمل، خصوماً في الإنجاز وفي السياسة، ومن الطبيعي أن لا يثق الناس في المختلفين عنهم ومَن لديهم القدرة على إلحاق الضرر بهم، بل يرونهم خطراً عليهم، حل صراع ما أو اختفاء عدو ما، يولد قوى شخصية واجتماعية وسياسية تؤدي إلى نشوء صراعات جديدة أو أعداء جُدد، نزعة الـ ((نحن)) والـ ((هم)) عامة تقريباً في السياسة، والـ ((هم)) في العالم المعاصر، وعلى نحو متزايد هم أُناس ينتمون إلى حضارة أخرى.

من كل هذا نلاحظ أن (هنتنجتون) لا يرى في انتهاء الحرب الباردة نهاية للتعدد، والانسجام والانفراد المتوقع بالكون محض وهم، التعدد وتأصيله في الكون البشري أصبح أكثر حقيقية وواقعية من ذي قبل، والحاجة إلى الذات والهوية والأصل والعرق والمجال المحدد أمست حاجة وجودية، لكنها تتركز في عالم اليوم بالهوية الحضارية، هذا الثابت هو أساس وجوهر الصراع والتنافس في حياتنا المعاصرة، والنزوع إلى الاختلاف بالطبع لا يلغي النزوع إلى التوحد والتوافق والانسجام.

ويرجح هنتنجتون الرأي بأن (أواخر القرن العشرين شهد انبعاثاً أو صحوة دينية في أنحاء العالم، وأدى ذلك إلى تقوية الاختلافات بين الأديان. ونظرته إلى المستقبل تُرجح انتصار الإسلام حيث على ((المدى الطويل سينتصر محمد (ص) والمسيحية تنتشر أساساً عن طريق التحول، الإسلام ينشر عن طريق التحول والتناسل ونسبة المسيحيين في العالم ارتفعت إلى 30% في الثمانينات ثم استقرت وهي الآن تنخفض، وقد تصل إلى 25% من سكان العالم بحلول عام 2025م ونتيجة لمعدل الزيادة السكانية المرتفع جداً، فإن مسلمي العالم سيستمرون في الزيادة الكبيرة التي قد تصل إلى نسبة 20% من سكا العالم مع نهاية القرن الحالي وتفوق عدد المسيحيين بعد سنوات قليلة وربما تصل إلى نسبة 20% من سكان العالم بحدود سنة 2000).

إن عملية التأصيل الكونية هذه تتجلى بشكل واضح في الإحياء الديني الذي يجري في أجزاء كثيرة من العالم، خاصة ذلك الانبعاث الثقافي في الدول الآسيوية والإسلامية الناجم عن نشاطها الثقافي ونموها الديمغرافي، وتتبع هذه الصحوة في الجمهوريات الإسلامية كونها (رد فعل ضد العلمانية والنسبية الأخلاقية والانغماس الذاتي وإعادة تأكيد لقيم الانضباط والعمل والعون المتبادل والتضامن الإنساني، وهذا يعني على حد تعبير (وليم ماكنيل) حين يقول: إن إعادة تأكيد الإسلام مهما كان شكله الطائفي، يعني رفض النفوذ الأوروبي الأمريكي على المجتمع والسياسة والقيم المحلية، وهذا يؤشر على أن (صحوة الأديان غير الغربية هي أقوى مظاهر معاداة التغريب في المجتمعات غير الغربية، لكن الصحوة هنا ليست رفضاً للحداثة بل هي رفض للغرب والثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة به.

وعلى هذا الأساس تُعد، الصحوة الثقافية والاجتماعية والسياسية العامة للإسلام اليوم التحدي الإسلامي الجديد، والحضارة الإسلامية تُعبر عن ثقتها بنفسها في تحدي الغرب بالاستناد إلى التعبئة الاجتماعية والنمو السكاني، هذا التحدي له آثاره على (عدم استقرار السياسة العالمية في القرن القادم).

يستقرأ (هنتنجتون) واقع حال هذه الأصولية ومُعطياتها، فقد 0لمست الصحوة كل مجتمع في العالم تقريباً، مع بداية السبعينات اكتسبت الرموز والمعتقدات والمبادئ والممارسات والسياسات والتنظيمات الإسلامية التزاماً متزايداً ودعماً في كل أنحاء العالم المكون من بليون مسلم والممتد من المغرب العربي إلى أندونيسيان ومن نجيريا إلى كازخستان، وقد اتخذت عملية بعث الروح في الأسلمة طريقها إلى الظهور من خلال ثلاث فئات، شأنها في ذلك شأن الحركات الثورية، وهي:

1 ـ الفئة الأولى: وتتكون من الطلاب والمثقفين الذين اجتاحا الاتحادات الطلابية، ثم الاختراق الإسلامي للجامعات في مصر والباكستان وأفغانستان وطلاب المعاهد الفنية وكليات الهندسة، ثم جيل التأصيل الثاني الذي عبر عن نمط جديد من الأسلمة في السعودية والجزائر.
2 ـ الفئة الثانية: جاءت من القطاعات الأكثر تقدماص في الطبقة المتوسطة كالأطباء والمحامين والمدرسين والموظفين في الدولة.

3 ـ الفئة الثالثة: من جماهير الإسلام الثوري كما يقول (روي): هم نتاج المجتمع الحديث القادمون الجدد إلى المدينة، ملايين الفلاحين الذين ضاعفوا وضاعفوا من عدد سكان المدن الإسلامية الكبرى، وهذا برأي هنتنجتون، استخلاص نظري، فالمهاجرون من المزارع والمكدسون في الأحياء العشوائية والحقيرة من المدن كانوا دائماً في حاجة إلى الخدمات الاجتماعية التي توفرها لهم المنظمات والمؤسسات الإسلامية وكانوا هم المستفيدين منها.

ومن ناحية ترتبط الصحوة الإسلامية بوضعية الحكومات الإسلامية فالعلاقة متداخلة ويحاول (هنتنجتون) استقراء مؤشراتها، فالحكومات التي تُمارس الحكم من منظور إسلامي عملياً هي قليلة في الآفاق الإسلامية، هناك إيران والسودان ودول الخليج العربي فضلاً عن دول أخرى خارج هذه الأطر الجغرافية، في السبعينات والثمانينات كان الصراع قائماً بين فكرة الديمقراطية الليبرالية والاتجاهات الإسلامية، لكن الحركات المتأسلمة تكتسب قوة في البلاد الإسلامية، التأسلم كان هو البديل العملي للمعارضة الديمقراطية للسلطوية في المجتمعات المسيحية، هذه الحركات إحتكرت غالباً عملية المعارضة للحكومات في الدول الإسلامية، ومن منظور (هنتنجتون) كانت قوة هذه الحركات تعود في جزء منها إلى ضعف مصادر المعارضة البديلة، والحركات اليسارية والشيوعية فقدت مصداقيتها ثم قل شأنها لدرجة كبيرة بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية العالمية، جماعات المعارضة الديمقراطية الليبرالية كانت موجودة في معظم المجتمعات الإسلامية لكنها كانت تقتصر عادة على أعداد محدودة من المثقفين وغيرهم من ذوي الارتباطات أو الجذور الغربية ومع إستثناءات قليلة كان الديمقراطيون الليبراليون عاجزين عن كسب الدعم الشعبي في المجتمعات الإسلامية، بل حتى الليبرالية الإسلامية فشلت في تكوين جذورها.

وبالمقارنة مع الأحزاب الديمقراطية فإن القوة الأصولية تنوعت عكسياً مع هذه الأحزاب، ومنها العلمانية والوطنية، هذه الأخيرة تبدو بلا قناع بينما الحركات الأصولية لديها غطاء شعبي واسع، فضلاً عن المؤسسات التي تدعمها .. ، وقوة الصحوة وجاذبية التأسلم أدتا إلى تبني الحكومات للممارسات الدينية ودمج رموزها في أنظمتها، وهو الأمر الذي يعني إعادة تأكيد الشخصية الإسلامية للدولة والمجتمع.

ومن وجهة نظر هنتنجتون هناك أسباباً لتعاظم القوة الإسلامية في مرحلة السبعينات والثمانينات ومنها، وهو الأهم، الطفرة النفطية التي حدثت في السبعينات حيث حفزت الصحوة الإسلامية وزدتها بالوقود، هذه الطفرة زادت لدرجة كبيرة من ثروة وقوة كثير من الدول الإسلامية ومكنتها من أن تعكس اتجاه علاقة السيطرة والتبعية التي كانت بينها وبين الغرب.

الصراع إذن حقيقة موضوعية عامة بين الشعوب، وأسباب (الصراع المتجددة بين الإسلام والغرب توجد في الأسئلة الأساسية للقوة والثقافة، مَن الفاعل ومَن المفعول به .. ، مَن الذي يجب أن يحكم، ومَن الذي يجب أن يكون محكوماً؟ .. )، وبما أن النم السكاني والثراء الاقتصادي يمثلان قوة أساسية عبر التاريخ، فإن (مستوى الصراع العنيف بين الإسلام والمسيحية، عبر الزمن كان يتأثر دائماً بالنمو الديمغرافي هبوطه، كذلك بالتطورات الاقتصادية والتحول التكنولوجي وشدة الإلتزام الديني، والعلاقات بين الإسلام والمسيحية، سواء الأرثوذكسية أو غيرها، كانت عاصفة غالباً، كلاهما كان (الآخر) بالنسب للآخر، وصراع القرن العشرين بين الديمقراطية والليبرالية والماركسية واللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة إذا ما قُرون بعلاقة الصراع المستمر بين الإسلام والمسيحية، أحياناً كان التعايش السلمي يسود، غالباً كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة وهذا يعني إن (الإسلام ه الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك .. ).

وعلى مدى القرون الماضية كان الصراع بين الإسلام والغرب يتركز في مظاهر أو ظواهر تطلع إلى الواجهة دون غيرها، وفي أواخر هذا القرن كانت الصحوة الإسلامية، ولكن وراء هذه الظاهرة أسباباً أو عوامل متشابهة كما يرى (هنتنجتون) زادت من حدة الصراع بين الإسلام والغرب ومنها:
1 ـ خلف النمو السكاني الإسلامي أعداداً كبير من الشبان العاطلين والساخطين الذين اصبحوا مجندين للقضايا الإسلامية ويشكلون ضغطاً على المجتمعات المجاورة، كهجرة الشبان المسلمين إلى دول الغرب.

2 ـ أعطت الصحوة الإسلامية ثقة متجددة للمسلمين في طبيعة وقدرة حضارتهم وقيمهم المتميزة مقارنة بتلك التي لدى الغرب.

3 ـ كذلك جهود الغرب المستمرة لتعميم قيمه ومؤسساته من أجل الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي والتدخل في الصراعات داخل العالم الإسلامي ولدت إستياءً شديداً بين المسلمين من الغرب.

4 ـ سقوط الشيوعية أزال عدواً مشتركاً للغرب والإسلام وترك كلاً منهما لكي يصبح الخطر المتصور على الآخر.

5 ـ الاحتكاك والامتزاج المتزايد بين المسلمين والغربيين يثير في كل من الجانبين إحساساً بهويته الخاصة وكيف إنها مختلفة عن هوية الآخر، وهو ما يفاقم الخلافات حول حقوق أبناء حضارة في دولة يُسيطر عليها أبناء حضارة أخرى، في الثمانينات والتسعينات إنهار بشدة ذلك التسامح بالنسبة للآخر في كل من المجتمعات الإسلامية والمسيحية.

إن هذه العوامل المشتركة، أي القائمة على أساس علائقي، ليست سوى ملامح تحيل إلى التشاؤمية في مستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب، فمن المرجح أن تكون علاقات الغرب بالإسلام متوترة على نحو ثابت وعدائية جداً في معظم الأحوال.

وعلى المدى القادم فإن (العلاقة بين قوة وثقافة الغرب وقوة وثقافة الحضارات الأخرى هي السمة الأكثر ظهوراً في عالم الحضارات، ومع زيادة القوة النسبية للحضارات الأخرى يقل التوجه نحو الثقافة الغربية وتزداد ثقة الشعوب غير الغربية بثقافاتها الأصلية والالتزام بها)، لكن الغرب سيُعاني من مشكلات عديدة في هذا الاتجاه، فالمشكلة الرئيسية (في العلاقات بين الغرب والباقي بالتالي هي التنافر بين جهود الغرب لنشر ثقافة غربية عالمية وانخفاض قدرته على تحقيق ذلك)، ومن ذلك أيضاُ نُلاحظ مع هنتنجتون إنه (طالما أن الإسلام يظل و (سيظل) كما هو الإسلام، والغرب يظل (وهذا غير مؤكد) كما هو الغرب فإن الصراع الأساسي بين الحضارتين الكبيرتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتيهما في المستقبل كما حددها في مدى الأربعة عشر قرناً السابقة).
إن هنتنجتون في نظريته (الصدام) يتوقف عند حدود بروز جهويات الإنسان الجديدة القديمة في نهاية القرن، وهي: العرق والتدين الطائفي وبمستوى أعم الهوية الثقافية أو الحضارية التي يقودها إلى حيز الصراع أو الصدام عنوة، وذلك بالاستناد إلى وقائع وأحداث إن هي إلا متغيرات يعدها هنتجتون مؤشرات تغير سيقع في المستقبل وهو الصدام المتوقع بين الغرب وبين الإسلام ضمن تصور صراعي أو صدامي بين حضارات متعددة هي التي تكوّن عالم اليوم.

إن فكرة (التصادم) إذن قديمة قدم الوجود الإنساني، وهي تتأثر بشكل أو بآخر بثقافة العصر وبطبيعة العلاقات الدولية في المجتمع الإنساني فضلاً عن تغيرات الفكر العلمي والفلسفي، أما فكرة التصادم في الأدبيات الغربية، الفكرية والسياسية والفلسفية والتي تطرح العلاقة بين الشرق والغرب كونها علاقة تصادمية، أو ستكون كذلك فإنها طرحت قبل هنتنجتون، كتحصيل حاصل لنظريات أو تصورات تفسيرية تستشرف العلاقة بين الشرق والغرب عامة والإسلام والغرب خاصة، وقد وجدنا أن روجيه غارودي الفيلسوف الفرنسي طرح فكرة التصادم، ولو بشكل سريع، يقول غارودي في مطلع كتابه: (الأصوليات المعاصرة، أسبابها ومظاهرها)، إن الأصوليات كل الأصوليات أكانت تقنوقراطية أم ستالينينية، مسيحية يهودية أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل، فانتصاراتها، في عصر لم يعد لنا فيه الخيار إلا بين الدمار المتبادل والأكيد وبين الحوار، يمكناه أن تحبس كل المجتمعات البشرية في مذاهب متعصبة منغلقة على نفسها، وبالتالي متجهة نحو المصادمة، كما إن هناك العديد من الباحثين والمفكرين الغربيين قد استشرقوا رؤية التصادم القادم بين الغرب والإسلام، وقد اعتمد هنتنجتون طروحاتهم لتعزيز تفسيره للصراع الحضاري القادم.

إن هنتنجتون لا ينظر إلا إلى الجوانب السلبية من ظهوريات الإسلام أو الأسلمة في العالم الآخذة بالازدياد، وهو في الوقت الذي يتابع ظهوريات الإسلام في الدول الغربية، وذلك أمر مهم، نراه يركز على أحداث ووقائع تعكس عنف العلاقة بين الغرب والإسلام، وهل فاته أن هذه الأحداث هي نتاج لماكنة السياسة الغربية في العالم، إن ما حدث عام 1991 حين شنت القوات العسكرية الأطلسية حربها الشعواء المدمرة ضد العراق، وطناً وشعباً، كان نتاجاً لقصدية سياسية ستراتيجية غربية في المنطقة، كما أن ما حدث وما زال يحدث وما زال في كوسوفو هو الآخر نتاجاً لإرادة سياسية بالدرجة والأساس، وقد اعتاد الغرب أن يتحين الفرص ويصطاد الأفكار، ويُنضد الايديولوجيات المرحلية ليصل بها إلى حالة التصارع الحضاري، أو الثقافي، إن المهم والأساس بالنسبة للغرب هو مصالحه الاقتصادية وتأمين احتياجاته المادية لحياته لا أكثر.

المصدر: مجلة الكلمة /العدد24/1999م