بغض النظر عن القراءات المتناقضة لما يسمى بـ (الحركات الإسلامية) أو (الأصولية) أو (الإسلام السياسي) أو (الصحوة الإسلامية)، الخ، فهذه الظاهرة وليدة بيئتنا وثقافتنا، وتنهل من ماضينا ومقدساتنا، الأمر الذي يجعل مقاربتها لا يحتاج إلى الجري وراء تنظيرات المفكرين الغربيين وكتاباتهم حول الموضوع، فبما أنها خاصتنا دون منازع، فعلينا أن ننظر إليها بعيوننا وليس بعيون الآخرين، فمثقفونا ورجال سياستنا أقدر من غيرهم على التعامل مع الموضوع. وعليه، فقد ركزنا في مقاربتنا للموضوع على الواقع أكثر من التنظير، وسيحتج البعض من جمعنا العلمانية والأصولية في موضوع واحد مع أنهما مصطلحان متناقضان وينتميان إلى مرجعيتين مختلفتين. وهذا كلام صحيح إذا كنا سنقوم بدراستهما نظريا أي على مستوى التعريفات، ولكن بما أننا ـ كما سبق الذكر ـ سنتناول الموضوع من خلال الممارسة والمعايشة، فإن التعرض لأي منهما سيحيل تلقائياً إلى الآخر وخصوصاً في الشكل الذي هما مثاران فيه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فالعلاقة بينهما علاقة الفعل وردة الفعل أو الشيء ونقضيه، مع أنهما غير متناقضتين بشكل كامل كما سنوضح ذلك.

تحديد الإشكالية

هناك مقولة مشهورة لفولتير: “قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك” وهذه المقولة يتوجب استحضارها إذا كنا في إطار بحث اجتماعي، حيث تتعدد المفاهيم وتتداخل وتتناقض بعضها مع بعض حول القضية الواحدة. فالمصطلح في العلوم الاجتماعية حمّال تفسيرات عدة وهو لا ينجو من تأثيرات الأيديولوجيا والذاتية، اللتين يضيفهما الباحث على رؤيته وتفسيره للمفاهيم المستعملة.

إن المصطلح الذي هو “تجريد للواقع يسمح لنا أن نعبر عن هذا الواقع من خلاله”، هو أساس لغة التعامل الإنساني ووسيلة للتعبير عن أفكار وحالات وأوضاع محددة. وتكتسي عملية التحديد الدقيق له أهمية قصوى في البحث الاجتماعي، لأنه عن طريق هذا التحديد يمكن للباحث أن يحصر المعلومات التي عليه جمعها، ويمكن للقارئ أيضا، منذ البداية، أن يعرف ماذا يقصد الباحث بهذا المفهوم أو ذاك، أو ما هي القضية محل النقاش. إن تحديد وتعريف مفهوم أو مصطلح، والإلمام بمقاصده، وخصوصا في دول العالم الثالث، حيث يتداخل ما هو اجتماعي مع ما هو سياسي، والديني مع الدنيوي، بشكل كبير، لا يستمد هذا التعريف غالباً من المفهوم ذاته، أي من كونه تجريد للواقع، بل تغلب عليه الأيديولوجيا والأشواق والتطلعات، فيصبح المصطلح من خلال ما يضفي عليه، مما ليس فيه، تعبيراً عن شيء أو أشياء لا علاقة لها بالواقع، عن شيء يجب أن يكون كما يريده العقل المتعامل والمستعمل للمصطلح، وليس عن الشيء الموجود بالفعل، الأمر الذي جعل بنية الفكر العربي الإسلامي الذي تملأه هذه المفاهيم وتشكل لحمته وسداه، عبارة عن بناء تصوري ذاتوي منسلخ عن الواقع، فكر مرتبط ومحكوم ومسير بمفاهيم ومصطلحات يعتقد أنها واضحة وبينة، بينما هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن الوضوح والموضوعية، حيث إن كل شخص أو حركة أو نظام يضفي عليها مسحة أخلاقية وقيمية إيجابية أو سلبية بحسب هواه، وهو الأمر غير المقتصر على الحركة الإسلامية أو الفكر الإسلامي المعاصر، بل ينطبق أيضا على التيارات الفكرية الأخرى القومية والاشتراكية.(1)

ومما يزيد التعقيد والتشويش المصاحبين استعمال المفاهيم كأدوات لتجريد الواقع، هو أن غالبية هذا المصطلحات والمفاهيم ليست نتاج الواقع الاجتماعي ذاته الذي تحاول التعبير عنه، وليست مستمدة من البنية اللغوية أو العقلية للناس المشكلين للظاهرة، بل هي مفاهيم ومصطلحات وافدة ومستمدة من القاموس اللغوي الأوروبي، ومن العلوم الاجتماعية الغربية. ولا نبالغ إن قلنا إن الحيز الأكبر من قاموسنا المفاهيمي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، هو عبارة عن مفاهيم مستجلبة ومركبة بشكل تعسفي وإقحامي على الواقع: الدولة، الديمقراطية، المعارضة، العلمانية الأحزاب، البرلمان… الخ، كلها مفاهيم تطلق على أشياء ليست بالضرورة معبرة عن المعنى الحقيقي لهذه المفاهيم كما تجسدها تعبيراتها الواقعية في دول المنشأ ـ الحضارة الغربية ـ وليس معنى هذا أننا كعالم عربي إسلامي نشكل حالة خاصة منفصلة كلياً عن العالم وقيمه وحضارته وأفكاره، ولكن القصد أن هذه المفاهيم المشار إليها لا تستمد علميتها ومصداقيتها من انتظام مقولاتها وعقلانية أهدافها بشكل تجريدي، بل تستمد هذه المصداقية من ارتباطها بواقع اجتماعي محدد ومن قدرتها على التعامل مع هذا الواقع وتغييره لما فيه خدمة الإنسان. وأما سلخها عن واقع النشأة وإقحامها تعسفيا على واقع اجتماعي حضاري مغاير، فلن يؤدي بالضرورة إلى النجاح نفسه الذي حققته في دول النشأة، بمعنى آخر يجب أن لا تؤخذ هذه المفاهيم كمقولات جاهزة ودغمائية، بل كنماذج تستلهم وتتكيف مع خصوصيات كل مجتمع.(2)

لا يختلف اثنان في وطننا العربي الإسلامي على أن الظاهرة المسماة المد الأصولي أو الإسلام السياسي هي من قضايا الساعة اليوم، حيث تفرض نفسها بأشكال متفاوتة الحدة ما بين بلد وآخر، وتأخذ تعبيرات وتمارس سلوكيات، قد تختلف في تمظهراتها الخارجية، لكنها تتفق في جوهرها وفي مرجعيتها العقلية والعقائدية التي تنهل منها ـ أو أنها تدعي ذلك ـ بل لم يقتصر الأمر على أصحاب الديانة الإسلامية أنفسهم، بل دخل الغرب كطرف في الموضوع، وأفسح حيزاً من اهتمامه وإعلامه لمواجهة هذه الظاهرة وتصنيفها كخطر يهدده ويهدد الحضارة الإنسانية المعاصرة.!!.(3) ومن المعلوم هنا أن استحضار الرب أو المقدس لم يكن في يوم من الأيام غائباً عن الحياة الاجتماعية لدى شعوب الشرق عامة، فالشرق هو عالم الروحانيات كما يقول الغربيون، انطلاقاً من كونه منبع الديانات السماوية. إلا أن الاستحضار المكثف للرب وجعله مرجعية لبعضهم، للتحريم والتحليل، ولإضفاء المشروعية على الوضع القائم أو تجريده منها، أخذ اليوم شكلاً أكثر حدة، وخلق حالة من الترعس الديني الجماعي جعلت كل الأوضاع القائمة، سياسية واقتصادية واجتماعية، أنظمة وإيديولوجيات وعلاقات، يعاد النظر فيها وتخضع لعملية تقييم جديدة، ليس على أساس شرعيتها القانونية أو الشعبية، بل على أساس مدى ما يربطها بالشريعة الإسلامية وتعاليم الرب، كما يحدد معالمهما أصحاب التيار الديني، من أنظمة تيوقراطية وحركات سياسية دينية. فأينما يممت وجهك اليوم تصطدم بالدين: فإذا تحدثت عن السياسة والديمقراطية، عليك أن تجد صلة بينهما وبين الإسلام وتحديداً الشورى، وإذا تحدثت عن الاقتصاد والتنمية فيجب استحضار موقف الدين من هذه الأنشطة وتحديد المحرم والمحلل منها، وإذا تحدثت عن الأسرة والزواج فإنهما أكثر الموضوعات إثارة للجدل، وعمم على ذلك مختلف أنشطة الحياة، فالمسلمون من أكثر المجتمعات احتفالية بدينهم.

إن الرب يتغلغل في نسيج حياتنا ويشكل عنصراً محورياً في نمط تفكيرنا وعقلنا وشعورنا الواعي وغير الواعي، وإنه معنا في اليقظة وفي المنام، في البيت وفي العمل، في التجارة وفي السياسة، في سلوكنا الخير وفي سلوكنا الشرير، إنه، بشكل آخر، اللازمة التي تميز عقلنا العربي الإسلامي عن غيره. لكن الرب الذي نستحضره ونوظفه ليس بالضرورة رب العالمين، الرب المطلق اللامتناهي، رب الجميع، بل هو رب نتخيله ونفصله على هوانا وبحسب مقاسنا، رب نعتقد، كأنه لم يوجد إلا لنا ولا هم له إلا نحن، رب نريد منه أن يبرر مساوئنا ويتجاوب مع ما نريد من صالح أو طالح، رب نستحضره إن كان في استحضاره ما يحقق أغراضنا، وننساه إن كان في ذلك مصلحة لنا.‏ الظاهرة في عمقها ليست مشكلة الرب أو الدين ـ أو الإسلام بحد ذاته ـ لكنها مشكلة العقليات التي تتعامل معهما وكيفية توظيفهما في حياتنا اليومية، فطبيعة العقل الشرقي وطبيعة بنية المجتمع العربي، هما اللذان يضفيان حالة من التضخيم والتهويل والتقديس على ظواهر دنيوية وحياتية، ويخلقان حالة من الترعس الديني والهيجان لإرضاء هذه العقلية، ولإضفاء مصداقية دينية قدسية على حالة العجــز عن فهم الواقــــع وإخضــاعه والتعامل معه.فالخلل ليس في الدين ذاته ولكن في العقليات المتعاملة معه، وهي العقليات نفسها والبنية العقلية الاجتماعية نفسها التي فشلت في التعامل مع الأيديولوجيات الدنيوية ـ قومية، اشتراكية وليبرالية ـ وفي توظيفها لما فيه خدمة الإنسان العربي، إنها عقليات ونظم تعيد إنتاج نفسها وتعيد إنتاج الواقع نفسه بمفاسده وبنيته وقيمه السائدة، بل إنها تعيد إنتاجه بشكل أكثر تشويها. فإذا استثنينا مظاهر التحول المادي ـ خلق مجتمع استهلاكي حيواني غير منتج ـ فإن بنى المجتمع الأخرى لم تتغير ـ فبالنسبة إلى الأنظمة الثورية، لم يتغير الخطاب الرسمي، وهو خطاب تبشيري فوقي يحُفظ دون أن يُعْقل. وبالنسبة إلى الأنظمة المحافظة، فلم توفق في توظيف علاقتها وانفتاحها على الغرب والفكر الليبرالي في إحداث تغييرات جوهرية تمس النظم العقلية والسياسية والاقتصادية والنفسية السائدة، بل اقتصرت على أخذ قشور حضارة الغرب المادية الاستهلاكية، وبعض أساليب الممارسة الديمقراطية الشكلية، لأن غالبية هذه الأنظمة المحافظة تستمد شرعيتها من الماضي، ومن المحافظة على ما هو قائم، وليس من المستقبل وتغيير ما هو قائم، فالتغيير وتفكيك بني المجتمع التقليدي يفقدها شرعيتها، وبالتالي يفقدها مبرر وجودها.

المشكلة المطروحة هي في الواقع أكثر تعقيداً وعمقاً وخطورة مما قد يوحي به السياسيون والكتاب والعلمانيون، وحتى أكثر عمقاً من إدراك وفهم أصحاب الحركات الدينية أنفسهم، ذلك أن التمظهرات الخارجية الشكلانية لا تعكس حقيقة المشكلة، لأنها مشكلة متعددة الوجوه والأبعاد، وعملية عقلها علمياً لا تكون من خلال التعامل مع تعبيراتها الخارجية، لكن من خلال الغوص في البنى العميقة للعقل المتعامل معها واستقصاء الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحافزة على ظهورها، كإشكالية اجتماعية دنيوية. ذلك أن الرب دائم الوجود لا ينقطع حضوره، والإسلام ـ قرآن وسنة ـ موجود منذ حوالي ألف وأربعمائة سنة، والجماعات الدينية لم تأت بآية قرآنية جديدة ولا بحديث نبوي جديد، كما أن هذه الحركات الدينية أو المد الديني، يظهر ويختفي على شكل موجات بين فترة وأخرى، وهذا الاختفاء ثم الظهور تكمن أسبابه في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، أي أنه يخضع لشروط دنيوية وليست دينية.(4)

العلمانية :

العلمانية من المفاهيم التي أقحمت في الجدل المحتدم في العالم العربي والإسلامي حول علاقة الديني بالدنيوي، يظهرها بعضهم كأسلوب حياة وحكم متعارض مع الشريعة الإسلامية، ويطرحها آخرون بشكل لا يضعها موضع التصادم مع الإسلام. لاشك هنا في أن مفهوم العلمانية مفهوم غربي النشأة، وسواء نسبنا الكلمة إلى، العلم ـ العلمانية، بكسر العين ـ أو العالم ـ العلمانية، بفتح العين ـ(5) فإن هناك شبه إجماع لدى المختصين على أنها تعني فصل الدين عن الدولة. وحيث إن العلمانية في نظرهم شكلت عنصراً أساسياً في تطور الحضارة الغربية، وإحدى ركائزها، فإن الأمر، في نظرهم، يتطلب تطبيق العلمانية في العالم العربي الإسلامي لتكون ركيزة نهضة حضارية، وهؤلاء هم أنصار “نظرية التنمية”، أو المستلهمون مرتكزاتها الفكرية.

لن نستعيد هنا المفاهيم والتحليلات المتعددة التي أعطيت للعلمانية من طرف كتاب عرب،(6) والنقاش الذي بدأ منذ بداية القرن العشرين مع صدمة الحداثة، ثم توسع واحتدم مع علمانية كمال اتاتورك في تركيا، لكننا سنبين المفهوم الذي أعطى للعلمانية ووضعها في حالة تعارض مع الإسلام، حيث عرفت العلمانية بأنها فصل الدين عن الدنيا أو عن الدولة والسياسة، الأمر الذي يعني أن للرب مجالاً خاصاً به، وهناك مجالات أخرى لا علاقة للرب بها، وهذا في نظر بعض التيارات الدينية يتناقض مع مفهوم الرب المطلق اللامتناهي، رب السماوات والأرض الذي على كل شيء قدير والذي لا يحدث أمر من دون علمه وإذنه، كما يتناقض مع تصورهم عن الإسلام باعتباره دينا ودنيا، عبادات ومعاملات.

قد يوحي تعريف العلمانية بأنها فصل الديني عن الدنيوي، أن دول الغرب العلمانية تخلت عن قيمها المسيحية، ولم يعد للدين وجود في علاقتها الداخلية والخارجية. هذا أمر غير صحيح، فالحضارة الغربية لا زالت تسمى (حضارة غربية مسيحية) والمؤسسات والرموز الدينية لا زالت فاعلة، والمراكز التبشيرية التي يزرعها الغرب في مناطق العالم لا تخفى على أحد، بل إن نظرة الإنسان الأوروبي العادي إلى أصحاب الديانات الأخرى محكومة ببعد ديني لا يخفى بالإضافة إلى النظرة العدائية التي ينظر من خلالها الغرب المسيحي إلى العالم الإسلامي.(7)

إن الفهم الحقيقي للعلمانية التي أخذ بها الغرب، يعني أن أمور الدين ليست حكرا على جماعة تدعي أنها واسطة بين الإنسان وربه. فالعلمانية ترفض التسليم بأن أمور الدنيا لا تستقيم إلا إذا نظمت وسارت على أساس تطبيق نص أو تعاليم دينية واضحة ومحددة. والعلمانية لا تنفي وجود الرب ولا تحاربه، بل تقبل التعايش معه واستحضاره، لكن ليس كنصوص قاطعة باتة أو تعاليم صارمة، بل كروح وقيم ومبادئ تُسْتَلهم وتكيف مع خصوصيات كل مجتمع، ومع كل مستجدات تطرأ. فالعلمانية بهذا الشكل تعني توظيف الدين عقلانياً بما فيه خدمة المجتمع والإنسان، وبما لا يتناقض مع روح الدين إذ أن الدين وجد لخدمة الإنسان ولما فيه صالح المجتمع.

إن الجذور التاريخية للعلمانية في أوروبا، والتي تصاحبت مع حركة النهضة، لم تقم على أساس تغييب الرب أو قطع الصلة مع الدين، لكنها سحبت احتكاره من قبل فئة محددة، ووسعت أفقه ليستوعب العلم الحديث وتطورات العقل البشري، وهي مجالات معرفية كانت محجوراً عليها من طرف رجال الدين وهي بذلك حررت الحاكمين من سلطة رجال الدين وتفسيراتهم وتأويلاتهم الانتقائية التي ليست بالضرورة تطبيقا لنص إلهي أو موحى بها إليهم، وفصلت الكنيسة عن السياسة بحيث أصبح رجال الدولة يستمدون شرعيتهم من الشعب، وأصبح رجال الدين والمؤسسات الدينية جزءاً من حركة المجتمع وتطوره ومؤسساته، وعليهما إثبات جدارتهما في خدمة المجتمع والتفاعل معه وليس في اعتمادهما على شرعية متوهمة مستمدة من مصدر إلهي مشكوك في تمثيلهما إياه.

لقد أضفت العلمانية طابعاً اجتماعياً واقتصادياً على المقدس، محايثاً لمجريات الحياة اليومية ومتكيفاً وفق متطلباتها، أي أنها عملت على تبيئة المقدس وتبسيطه وتحويله إلى أخلاقيات وقيم دنيوية، فما هو مقدس ليس ما يقول به رجال الدين بالضرورة، بل أن قدسيته تستمد من قدرته على خدمة الإنسان والمجتمع، بما لا يتناقض مع روح الدين وقيمه السامية. وبالتالي، فإن القانون الوضعي لا يتناقض أو يلغي النص الديني، بل يكون هذا الأخير متضمنا فيه وممثلاً روحه، فما يخدم الإنسان ويمثل إرادة الأمة ويحظى بإجماع الشعب، ورضاه، لا يمكنه إلا أن يكون مقبولا من قبل الرب. إلا أن تبسيط العلمانية وحصرها في علاقة ثنائية تناقضية مفترضة بين الدين والسياسة، أو الدين والدولة، لا يساعد على فهم أسباب وعوامل نجاح العلمانية في الغرب وتعثرها في البلدان الإسلامية. وهنا قد يطرح بعضهم خصوصية الإسلام وتميزه عن المسيحية، كأهم أسباب صعوبة تطبيق العلمانية، من منطلق أنه لا يوجد في الإسلام كهنوتية ـ طبقة رجال الدين ـ كما هو الأمـــر فــي المسيحيــة وأن الإســلام فـي جوهــره ديــن ودنيا لا يمكن الفصل بينهما.

نعتقد أن هذه الأسباب، وإن كان لها بعض القدرة على التفسير، غير مقنعة، إذ أن المتعمق في البحث لن تعوزه النباهة ليكتشف وجود “طبقة” رجال الدين وما يشبه الكهنوتية في المجتمعات الإسلامية، بل إن هذه الأخيرة هي أكثر انغلاقاً وتخلفاً من الكهنوتية المسيحية. فلعقود طويلة والدين مجال مقدس محرم لا يناقش، وعالم مغلق على رجال الدين التقليديين من أئمة مساجد وشيوخ وعلماء يحتكرون فهم الدين وتفسيره بالشكل الذي يتفق مع مصالحهم ورغباتهم، ومع مصالح ورغبات من هم في السلطة، كما كان الدين مُحْتَكرا من قبل السلطة التي توظفه بالشكل الذي يخدم أغراضها. وكان مما يزيد من شقة التباعد بين الناس العاديين وبين الفهم الحقيقي للإسلام، وإدراك معانيه العميقة وعقلنته، هو التحالف بين الفئتين السابقتين ـ رجال الدين التقليديين والسلطة ـ هذا التحالف الذي جعل الفئة العظمى من المواطنين، وخصوصاً المثقفين الشباب، تلتجئ إلى الإيديولوجيات العلمانية وتتبنى أفكارها وتنخرط في أنشطتها، ليس كفراً بالإسلام، لكن لأن الإسلام الرسمي والتقليدي لم يكن يشفي الغليل، ولم يكن يسمح لهم بالتفكير العقلاني معه وبه. وكانت أية محاولة من طرف المثقفين الشباب للتساؤل والتقصي حول أمور تنسب إلى الإسلام، تفسر بتوجهات إلحادية وبالزندقة، حيث كانت عملية التساؤل والتفسير من اختصاص الشيوخ التقليديين أو من اختصاص السلطة والمجامع العلمية الدينية التابعة لها.

ومما زاد في ارتباك مفهوم الإسلام في أذهان الناس وسلوكياتهم وتداخل الإسلام مع أمور تنسب إليه وليست فيه، واحتكاره من طرف فئة محددة من الفقهاء وعلماء السلطة، هو انتشار الأمية والجهل وغياب مناهج تدريس تنقل إلى الناشئة المعنى الحضاري والعميق للإسلام. ففي مجتمعات تزيد فيها نسبة الأمية على ستين بالمائة، كيف يمكننا أن نتحدث عن مجتمع مسلم، إلا باعتبار الإسلام طقوس وعبادات وليس حضارة تؤسس. وما زاد من حدة المشكلة وتفاقمها، هو الانقسام الحاد للمجتمع العربي إلى قلة مترفة ذات تعليم عصري علماني وثقافة مشبعة بروح الغرب وقيمه، وأغلبية جاهلة فقيرة وأمية ذات تعليم تقليدي. الأولى لا تعرف من الإسلام إلا أسمه وتتعامل معه كشيء من التراث الذي عفا عنه الزمن وتحمله كل أسباب التخلف عن ركب الحضارة ـ وبعض شرائح هذه النخبة ممن هم في السلطة السياسية ومع عدم إيمانها الكامل بالشريعة الإسلامية ـ إلا أنها ترفع شعارات الإسلام وتنصب نفسها حامية حماه، لتضفي على نفسها شرعية دينية، ولتمرر من خلال خطابها الديني، الذي يخدر عقول الجماهير المتدينة تقليدياً وبالوراثة، سياساتها وتحقق مصالحها، بينما واقع سلوك هذه النخبة السياسية ونمط حياتها هما أبعد ما يكون عن الإسلام، والثانية، أغلبية يعمها الفقر والبؤس والأمية، تتكدس في الأرياف وفي أحزمة البؤس على أطراف المدن، تمارس طقوساً تعتقد أنها الإسلام، وحتى مناهج التعليم التي تتلقاها فهي تقليدية محض في المراحل الأول، وتقنية وعلمانية في المراحل العليا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدروس الدينية، فإن نوع التوجيه ونوع الموجهين الدينيين، للأسف، لا يخدمان الإسلام الحقيقي بشيء.

الإسلام الذي يلقن للتلاميذ، تتداخل فيه الحقيقة مع الباطل والأسطورة، ويتم التعامل من خلاله مع عواطف وغرائز الخوف عند التلاميذ، بدلاً من التعامل مع عقولهم، ويصبح الإسلام عالماً مخيفاً ومرعباً فيه نار جهنم وشياطين وعذاب لا ينقطع، والموضوعات المسيطرة على الدروس والكتابات الدينية المدرسية وغير المدرسية، كمشاكل الزواج والطلاق ونوع اللباس والإرث والزنى والخمر هي أمور مهمة ولكنها ليست الأساسية، فيما المشاكل الحقيقية أبعد ما تكون عن هذه الدروس. وكيف يمكن أن تناقش أمور جوهرية والمكلفون بالدروس الدينية وبالتعليم التقليدي عموماً أناس ينتمون إلى الماضي، غير متفتحين على علوم العصر وغير مطلعين على مشاكل الساعة، وكتب التراث هي كل معارفهم وحيز مداركهم؟ والأخطر من ذلك أن المنهج المتبع والروح السائدة في هذه التربية تقتل روح الخلق والإبداع والعمل عند الإنسان، بإرجاع كل فعل أو عمل أو إنجاز إلى إرادة الله وقدرته، وكأن إرادة الإنسان في الفعل والعمل شيء يتناقض مع إرادة الله، الإنسان يصبح مجرد أداة لا حول له ولا قوة ولا دور له في هذه الحياة، إلا انتظار مشيئة الله والتسليم بإرادته، الأمر الذي يؤدي إلى تربية أجيال من السلبيين الاتكاليين العاجزين المنتظرين إرادة الله والمستسلمين لها. فالحكم الجائر من إرادة الله! والجوع والفقر أيضاً من إرادة الله الذي لا راد لإرادته! وهزائمنا أمام العدو أيضا هي نكسات ومصائب لا دور لنا فيها ولا قدرة لنا على ردها! أما الأشخاص المسندة إليهم هذه الدروس والمروجون لهذه الأفكار السلبية عن الإسلام، فهم غالباً من الشيوخ المسنين، أو من الملتحين الجادين الصارمين بوجوه مكفهرة لا تعرف الابتسام أو الانشراح، ويستعملون لغة ومصطلحات تنتمي إلى عصر غير هذا العصر، ويناقشون موضوعات لا تلامس الحياة اليومية المعاشة، مما يخلق لدى المتلقي ما يشبه ازدواج الشخصية، إذ يكون أثناء تلقيه هذه الدروس والمحاضرات في عالم معين، وعندما يخرج إلى معترك الحياة يصطدم بعالم آخر وحياة أخرى، وكأن لا علاقة للإسلام الملقن بها، فيقع ضحية التناقض بين هذين العالمين. وتكون الصورة أكثر غرابة في الأرياف، حيث تسود الأمية ويعم الجهل، فيتحول الإسلام لدى سكان الأرياف ـ وهم نصف عدد السكان تقريبا ـ إلى مجرد طقوس وأساطير لا يُفْقَه معناها، وإلى تقليد عادات يقوم بها سكان المدن من صلاة وصيام وحج وأضحية عيد…. الخ، كنوع من إظهار المكانة والتشبه بالحضر والتمايز الشكلاني عن الآخرين أو كنوع من التقاليد، من دون فهم واع لمغزى الإسلام وروحه، وبجهل لتاريخه وتشريعاته وأصوله.(8)

ومن هنا يصبح مشروعاً لنا أن نتساءل: هل يوجد هناك مليار مسلم في العالم؟ وهل الدول الذي تصنف كدول إسلامية هي مسلمة بالفعل؟ وهل الأنظمة والأحزاب والمؤتمرات التي تنطق باسم الإسلام وترفع راياته هي مسلمة بالفعل؟.إنه مما يسيء إلى الإسلام الحقيقي أن نقرنه بواقع حال المسلمين، أي نقرنه بالتخلف والبؤس والجهل والتعصب، فكل هؤلاء ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، إما جهلا ـ من الأغلبية، التي تعتقد أن ما هي عليه هو الإسلام الحقيقي ـ أو نفاقا ومصلحة من بعضهم الآخر الذين يسعون إلى إضفاء شرعية دينية على تصرفاتهم وسياساتهم ومصالحهم باستغلال المشاعر الدينية الغامضة والمشوشة لدى الجماهير الشعبية وجهلها بحقيقة الإسلام. أما القول بأن الإسلام يتميز عن المسيحية بكونه دينا ودنيا في الوقت نفسه، والمطالبة، بناء عليه، بالتطبيق الحرفي لنصوص القرآن والحديث النبوي، والرجوع إلى الأصول الأولى إلى عهد الرسول والخلفاء الراشدين كمرجعية إسنادية، فإن الأمر يحتاج إلى توضيح. فلاشك أنه في ذلك العهد، كان الإسلام كذلك، حيث كانت النصوص الخاصة بالمعاملات وتنظيم أمور الناس كافية للإجابة عن كثير من قضايا ومشاكل ذلك العصر، بمعنى أن النص كان متطابقا مع الواقع، بالإضافة إلى خصوصية شخصية الرسول وشخصية الخلفاء الراشدين. أما اليوم، فإن الحياة تتطور وتتعقد، والنص الديني تباعدت معانيه المباشرة مع الواقع الذي أصبح أكثر تعقيداً وتمايزاً واختلافاً وتناقضاً بعضه مع بعض، لتشرذمه إلى مجتمعات متباعدة ذات نظم سياسية واقتصادية واجتماعية ولغوية وثقافية مختلفة.(9)

ولا يمكن أن نتجاهل هنا الصعوبة على المستوى التطبيقي، في ما يتعلق بمن يحق له الاجتهاد، والموضوعات التي يمكن الاجتهاد فيها، فليست الأمور بالبساطة التي يراها القائلون (بأن الحق بيِّن والباطل بيِّن) فتعقد المجتمعات، جعل المتشابهات، أو الأمور الذي يثور الغموض حولها ـ أهي حق أم باطل ـ كثيرة. فحجم المعرفة الإنسانية خلال العقد الأخير وحده، يفوق بمرات المعرفة التي كانت سائدة في القرن السابع الميلادي، وهذا التطور المعرفي بحاجة إلى دمج في منظومة القيم والأفكار والمعتقدات الإسلامية، وعملية تكييف وتعايش ما بين الإسلام وبينها، وخصوصاً أن هذه المعرفة ليست وليدة أفكارنا وقيمنا الإسلامية، ولكنها جاءت من الآخر بقيمه ومعتقداته.

إذا من يحق له أن يجتهد في هذه الأمور هل كل إنسان مؤهل للاجتهاد فيها؟ أم أنها من اختصاص أولي الأمر؟ أم أنها من اختصاص أولي الخبرة في الموضوع محل الاجتهاد؟ إن الإجابة ليست بالأمر الهين، والتساؤل ليس بالشيء المستجد، لكن أوضاع الجهل والفقر التي يعيشها العالم الإسلامي، وفي ظل الهيمنة والاستلاب، الممارس من طرف ثقافات وحضارات متفوقة ومغايرة، وفي ظل هيمنة رجال الدين التقليديين على الشأن الديني، ووضع النقاش فيه في نطاق المحرمات، ومع انقياد المسلمين لأنظمة مشكوك في شرعيتها الدينية والشعبية والديمقراطية، في ضوء كل ذلك، فإن فتح باب الاجتهاد يتحول إلى مشكلة عويصة، تزداد تعقيداً مع تباين أوضاع المسلمين وتباين نظمهم وثقافاتهم وغياب الدولة الواحدة، فيتحول الدين إلى مطية وأداة توظفها الأطراف المتصارعة في المجتمع ـ وبين المجتمعات ـ كل بما يخدم أغراضه، وكثيراً ما تتناقض الاجتهادات بعضها مع بعض حول الموضوع الواحد لان المرجعية في التفسير والتأويل لا تكون روح الإسلام وقيمه، ولكن مصالح سياسية دنيوية.(10)

والخلل هنا ليس في النص الديني، لأن النص الديني كان يخاطب مجتمعاً محدداً وبلغة ومفاهيم وأمثلة من واقع حياته. فالنص، كلغة ومفردات، كان خاصاً بالمجتمع العربي الإسلامي آنذاك، أما الإسلام كروح وكقيم فهو لكل زمان ومكان. فتطبيق الإسلام اليوم لا يعني بالضرورة إخضاع الواقع لنص محدد، بل استلهام الإسلام من النصوص، لما فيه خدمة الانسان والمجتمع. وعندما نقول استلهام أو تأويل النص، فهذا يعني وضع نصوص وقوانين وضعية تستجيب لمتطلبات الحياة والعصر بما لا يتناقض مع روح الإسلام.

إن رفض القول بصحة وضع قوانين بشرية تنظم حياة الناس في مختلف مجالات الحياة، والتشبه والتقيد بالنص القرآني والحديث النبوي، من دون مرونة في التعامل، يعني إحدى فرضيتين: الأولى هي أن النص الديني، قرآناً وحديثاً، يتوفر على إجابات حول مشاكل ومستجدات العصر، وأن كل صغيرة وكبيرة يتوفر النص الديني على إجابة مباشرة عنها. هذا يعني أنه يمكننا أن نجد في النص المقدس ـ قرآناً وحديثاً ـ نصوصا حول العلاقات الدولية المعاصرة، ونظرية الدولة والاقتصاد والتأمين والشركات، وحبوب منع الحمل، وأطفال الأنابيب، والذرة، والاستنساخ وغيرها من المجالات… الخ، وهذا شيء غير موجود في النص الديني، ولا يمكنه أن يكون لأن النص الديني المقدس، سيبدو في نظر المسلمين الأوائل، غريباً وغير مفهوم، يتحدث عن أمور غريبة عنهم وشاذة. والفرضية الثانية: هي القول بأن الله، جلت قدرته، لم يكن يدري ما سيطرأ على العالم من تحولات وما سيواجه من مشاكل وما سيستجد من نظم واكتشافات، وعليه، فإن هذه الأمور مرفوضة ويجب تجاهلها! لا شك في أن الفرضيتين مرفوضتان. إذاً، الشيء الأقرب إلى المنطق، وإلى حقيقة النص الديني هو القول بأنه يعود إلى الناس تأويل النص الديني والتعامل معه بيسر ووضع هذه التأويلات والتفسيرات في قوانين وضعية تجيب عن مشاكل العصر، وبما لا يجعلها تتناقض مع روح الاسلام ومبادئه الأخلاقية، بمعنى أن القوانين الوضعية ـ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم الخ ـ تدخل في باب الاجتهاد في أمور مستجدة، وهذا يتفف مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”.(11)

إذا، فالخصوصية التي يتحدث عنها بعضهم ليست خصوصية الإسلام بحد ذاته، وتميزه عن الديانات السماوية الأخرى ـ وهي خصوصية موجودة بلا شك ولكن في حدود ـ لكنها خصوصية أوضاع المسلمين، خصوصية اجتماعية سياسية واقتصادية، وهي أوضاع لا تنسب الى الإسلام الحقيقي بل الى مدعيه والمتعاملين معه. وبالتالي عندما نقارن بين العلمانية في الغرب المسيحي، بالمفهوم الذي أوردناه أعلاه، والعلمانية التي يجري الحديث عنها في العالم الإسلامي، يجب الأخذ بعين الاعتبار الظروف والتحولات التي سبقت وتساوقت مع تطبيق العلمانية في الغرب وهيأت شروط نجاحها، ومقارنتها بالظروف والأوضاع السائدة في العالم العربي الإسلامي، حيث يراد تطبيق العلمانية. ونعتقد أنه مما يخدم الاسلام، التعامل بمرونة مع مقولة إعجاز النص القرآني، بدلاً من تحويل النص المقدس الى لغز وقيد على العقل، وحاجز أمام التطور والإبداع. فالقول بإعجاز النص القرآني كان ذا هدف معين عند نزول القرآن، وبالنسبة الى أناس ومجتمعات محددة، لها لغتها وأوضاعها الخاصة.أما اليوم، في عالم متغير، وظروف مجتمعات ولغات وثقافات متباينة، فان التمسك بالفهم الجامد لإعجاز القرآن كلغة وتعبير، قد يسيء الى الاسلام أكثر مما يفيده، لان التقيد بأعجاز النص، قد يقنع البعض من أصحاب اللغة العربية، ولكنه لا يستطيع إقناع أناس من لغات وثقافات أخرى، أما إبراز روح الاسلام وقيمة الخلاقة فأنه أكثر قدرة على الإقناع لأنه يتعامل مع الإسلام كقيم وتربية حسنة، ويبعد عن الإسلام ما يلحق به من تعصب وانغلاق وتخلف، ويجعله قابلاً لاستيعاب الأمور المستجدة ويفتح الباب واسعاً للاجتهاد والتأويل أمام ذوي الاختصاصات في الأمور المستجدة، ويجعله قابلاً للفهم من كل ثقافات العالم. هذا الفهم لإعجاز القرآن، يسمح لكل ذوي الخبرة والاختصاص وللعلماء والباحثين من كل الثقافات والجنسيات بالانفتاح على الإسلام والنهل من علمه وتعاليمه دون أن يكونوا شرطاً متعمقين في اللغة العربية، بل يكتفي منهم أن يكونوا مشبعين بروح الإسلام. إن عقل العلمانية وتلمس أسباب نجاحها وفهم آليات عملها وتطبيقها في الغرب، لا يستقيم إلا في إطار نظرة شمولية إلى التاريخ الأوروبي منذ القرن السادس عشر، تقريباً، حتى نهاية القرن التاسع عشر، بما حفلت به هذه الحقبة من تحولات وأحداث وثورات هيأت الشروط الموضوعية لنجاح العلمانية وأخذها السمات العامة التي هي عليه اليوم. فمن التعسف أن نفصل بين العلمانية وبين الثورات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا، والتي هيأت المناخ المناسب لنجاح العلمانية. فالثورة الدينية مثلت ثورة عقلية لدى الانسان الغربي، جعلته يضع محل التساؤل كل ما يتعلق بنظرته إلى الدين، وكل ما هو ثاو في عقله من تفسيرات ومفاهيم وتصورات حول نفسه ومحيطه وكل الأمور التي تنسب إلى الدين، أي أنها أعادت النظر ليس في الدين بحد ذاته، ولكن في وضع الدين في المجتمع ووظيفته وعلاقته بالمجالات الحياتية الأخرى. كما أن الثورات السياسية والاجتماعية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا… الخ، أعادت إلى الإنسان إنسانيته وخلقت المواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته، وحددت علاقة الحاكمين بالمحكومين وأبرزت مفهوم إرادة الأمة وحقها في الثورة وفي تغيير حكامها، وجردت هؤلاء الآخرين من حق احتكار الديني والمقدس أو التحدث باسم الإله، أي أنها أسقطت الشرعية الدينية عن الحكام. والثورة الصناعية أعادت إلى الانسان كرامته وثبتت إنسانيته بتوفيرها ظروف حياتية شريفة وتحريرها الإنسان من العوز والفاقة، وأعطت الوطن مواطنين منتجين، والثورة العلمية حررت العقل الإنساني من هيمنة الخرافة والأساطير وسهلت عملية تحكمه في الظواهر الطبيعية والاجتماعية وفهمها وتفسيرها باعتبارها أشياء، حقائقها في ذاتها وليس في مصادر خارجة عنها.

أشار محمد أركون إلى أن العلمنة موقف للفكر أمام مشكلتين: الأولى: مشكلة المعرفة. كيف يمكن أن نعرف الظواهر؟ كيف يمكن أن نفهم العالم بشكل دقيق ومطابق؟ لا يجوز حرمان الإنسان من حق الفهم بحجة أي شيء كان، الثانية: كيف يمكن إيصال هذه المعرفة بعد اكتشافها وبلورتها إلى الآخرين؟ وعندما نتوصل إلى نتائج جديدة ومحددة في مجال علمي ما تبقى علينا مسؤولية لا تقل أهمية عن الاكتشافات هي مسؤولية التوصيل، أي توصيل هذه النتائج إلى الآخرين، إلى الجمهور. ويؤكد محمد أركون أنه عانى شخصياً من هذه الناحية كثيراً ومازال وخصوصا فيما يتعلق ببحوثه المتعلقة بالفكر الإسلامي والفكر العربي.(12)

وبصورة عامة، يمكن القول إن ما عزز نجاح العلمانية في الغرب، وتقبل الناس إياها، من دون أن يشعروا أنهم يتخلون عن مسيحيتهم بالتعامل معها، أن المجتمع الغربي العلماني هيأ للناس شروطاً حياتية دنيوية أفضل مما كانوا عليه، ساعدتهم على حل مشاكلهم اليومية، ومكنتهم من القوة والقدرة على التحكم في الطبيعة وفي المجتمع، من دون أن يحتاجوا إلى فتاوى رجال الدين، أو ينتظروا حلولاً سماوية، أو يهربوا من الدنيوي إلى الأخروي. فهم مع عدم إنكارهم آخرة ما بعد الموت، وضعوا نصب أعينهم آخرة دنيوية يعملون من أجلها وهي المستقبل، فعملوا لدنياهم وعملوا لآخرتهم بمفهوميها آخرة ما بعد الموت والآخرة بمعنى المستقبل، فلم تعد الآخرة تعني نسيان وتجاهل الدنيا بحاضرها ومستقبلها، بل هي المستقبل اللامنظور واللامتناهي. وهكذا فكلما زادت قدرة الانسان على فهم الحياة والتحكم في واقعه وحل مشاكله، قلت حاجته إلى الهروب من الواقع إلى الخيال أو الأيديولوجيا أو الأسطورة أو انتظار حلول سماوية لمشاكله، وبالتالي قلت حاجته إلى استحضار الرب لينوب عنه في حل مشاكله. وهذا لا يعني ضعفاً في درجة الإيمان، بل على العكس، قد يؤدي إلى زيادة الإيمان بالله والإيمان بعظمته وحمده وشكره على إنارته العقل البشري ليتمكن الإنسان من حل مشاكله والتحكم فيما يحيط به.

ظاهرة المد الأصولي: دينية المظهر ودنيوية المصدر

لوجه الآخر للمشكلة، وهو ما يطلق عليه تسمية (المد الأصولي)، ولا تفهم العلمانية في عالمنا العربي الإسلامي، إلا بفهم الأصولية الإسلامية، ولا تفهم بالتالي هذه الأخيرة إلا من خلال علاقتها الجدلية التناقضية مع دعاة العلمانية وتطبيقاتها في النظم والدساتير العربية. وربما لا يحتاج المفهوم “الأصولية” إلى الرجوع إلى أصولها الغربية كما يذهب بعض الكتاب العرب.(13) فالأصولية، لغة ومعنى واصطلاحاً، مستمدة من اللغة العربية ومن التاريخ العربي الإسلامي فهي تأتي من “الأصل”. فأصل الشيء هو “الأساس الذي يقوم عليه ونشؤه الذي ينبت منه”. والعودة إلى أصول الإسلام ومنابته الأولى ليست بالشيء الجديد في التاريخ العربي الإسلامي، الأمر الذي أتاح لظاهرة الأصولية بعداً زمنياً مكنها من الوصول إلى مرحلة “التأسيس النظامي” داخل المجتمع، أي أنها أصبحت جزءاً من الواقع الاجتماعي، يتعامل المجتمع معها ليس بهدف إيجاد حل نهائي لها كظاهرة اجتماعية/ دينية، بل للتكيف معها واستيعابها وتدجينها وتبيئتها بما لا يخل بانتظام النسق الاجتماعي، وبالتالي يصعب التكهن باستئصال المشكلة ـ الظاهرة ـ على المدى القريب، في ظل البنى العقلية والاجتماعية نفسها، وفي ظل الشروط والأوضاع المشار إليها سابقاً، وخصوصاً أن كل الأطراف تسعى إلى توظيف الدين لخدمة مصالحها الخاصة، بما في ذلك الأنظمة نفسها، التي تشتكي من ظاهرة التطرف الديني. إن تكرار ظاهرة (التطرف الديني) أو الحركات الأصولية، ووجودها في غالبية المجتمعات الإسلامية مع تباين صور التعبير عنها من حالات تفجر واحتدام أحيانا، إلى حالات تعايش مع الوضع القائم وظهور المشكلة على شكل موجات وفي فترات متقطعة، وأخذها طابعاً عصبوياً استقطابياً كل ذلك يدفع إلى القول: إن العوامل الحقيقية لظهور الظاهرة هي عوامل دنيوية، تتعلق بشروط الحياة وأشكال نظمها المختلفة. فإذا سمحت الظروف السياسية والاجتماعية والأوضاع الاقتصادية بتوفير شروط حياة أفضل للمجتمع، وبخلق توازن بين أنساقه أو شرائحه المختلفة، وتوفير متطلبات التعايش السلمي بين مختلف شرائح المجتمع وطوائفه ـ تعايش بالتراضي لا بالقهر ـ توارت المشكلة بشكلها المتطرف وانتفى مبرر استحضار الرب لينوب عن البشر في حل مشاكلهم. أما إذا اختل التوازن وعجزت السياسة عن خلق حالة تعايش وانسجام داخلي، وإذا تأزمت الظروف الاقتصادية وأصبحت الفلسفات والأيديولوجيات الدنيوية عاجزة عن حل مشاكل المجتمع، وأصبح الشباب يعيش في حالة ضياع وتشتت وفقدان ثقة في كل شيء، تظهر الحركات الدينية كعامل تحريض وإثارة، وكعامل استقطاب وتميز أو كعامل رفض واحتجاج ـ أو كل ذلك ـ لتدخل الميدان موظفة خطاباً يزعم أصحابه أنه البرنامج البديل القادر على حل مشاكل المجتمع، أي أن الحلول المقترحة يضفي عليها طابع ديني لغياب أو فشل الحلول الدنيوية العلمانية، لكن المشكلة في جوهرها تبقى دنيوية. لاشك في أن التطرف الديني هو تصرف لا عقلاني، بينما الإسلام والتدين بشكل عام، في مغزاه العميق الروحي والأخلاقي، هو تصرف عقلاني، ولكن ما يجعل التدين عملاً لا عقلانياً، أي يوصله إلى مرحلة التطرف الاستقطابي القائم على تكفير الآخر ونبذه، هو لا عقلانية الواقع القائم من نظم وأنظمة ومؤسسات وسلوكيات. فإرهاب الأنظمة وفسادها وانتفاء شروط الحياة الكريمة، والمواقف اللاعقلانية والعنصرية للغرب في تعامله مع الشعوب الإسلامية ـ والعربية خصوصا ـ هي التي تستثير الجانب اللاعقلاني عند المتدينين، وهو جانب التطرف والانكفاء على الذات ومعاداة الآخر. وكلما تمت عقلنه الواقع بجعله قائماً على العدل والإنصاف واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه، نزعت من المتدينين صواعق تفجيرهم وتحولهم إلى ممارسي سلوك غير عقلاني، أي إلى ظاهرة التطرف الديني. أو بشكل آخر، كلما جعلنا الحاضر أفضل من الماضي ـ وهذه هي سنة الحياة وطبيعة التطور الذي يسير إلى الأمام دوما ـ الذي تتقمصه بعض الحركات الأصولية، وتجعله نموذجا لما يجب أن يكون، وكلما أصبحت المجتمعات المسلمة أكثر قدرة على التحكم في واقعها وعلى التحرر من عوامل الهيمنة والاستلاب التي تحكم علاقتها بالمجتمعات الأخرى، قلت الحاجة إلى الاستنجاد بالماضي وبالسلف الصالح، وانتفى مبرر انتشار النزعة الدينية المتطرفة. إذا الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفجر ظاهرة التطرف واحتدام الصراع بين “الأصوليين” من جهة، وبين أنظمة وقوى “علمانية” من جانب آخر، هي أسباب دنيوية، مشاكل ترتبط بالفقر والبطالة والهيمنة الأجنبية، والإحباط واليأس المسيطر على الجيل الصاعد، أي أنها غير مرتبطة مباشرة بالإيمان بالله أو عدم الإيمان به، أو بأن نكون مسلمين أو غير مسلمين وبالتالي، فإن طرح بعض الحركات الإسلامية الجانب السلوكي والطقوسي من الدين لا يعبر عن حقيقة المشكلة ولن يساعد على حلها، لأنها، ببساطة لا تتعامل مع جوهر المشكلة. حتى في الجانب الديني الإيماني فحيث أننا لسنا في زمن الأنبياء والرسل والقديسين، وحيث أن هذه الحركات، أو الأشخاص، لا يمكنها أن تدعي أنها على اتصال برب العالمين، أو أنها تحتكر السر الإلهي، ولا تدعي أنها جاءت بآية قرآنية جديدة، أو بحديث نبوي جديد، إذا فهي تسعى لتوظيف واستحضار الدين، والمقدس الذي هو للجميع، من أجل أهداف سياسية واجتماعية أو اقتصادية، أي دنيوية بشكل عام لا تعبر بالضرورة عن الحاجات الحقيقية للمجتمع.

نعتقد أن توظيف الدين لصلاح الدنيا ليس بالأمر الخطأ بل هو أساس وهدف الدين ولكن يجب عقلنته من خلال إعادة النظر، ليس في الدين بحد ذاته، ولكن في الموضع الذي يحتله في المجتمع، فلا شك في أن الحركات الدينية تكتسب مصداقية بتموضعها كحالة رفض لواقع لا خلاف على فساده، وعلى الحاجة إلى تغييره، وتتموضع كإطار يملأ الفراغ الناجم عن انسحاب الأيديولوجيات الأخرى، وكتعبير عن هوية تمايز عن الآخر ـ الغرب الإمبريالي والكيان الصهيوني ـ الذي لا يخفي عداءه القومي والديني والحضاري لكل ما هو عربي ومسلم، أي أن الإسلام يصبح في هذه الحالة كخط دفاع أخير يستند إليه العرب حتى لا يندثروا وينتهوا كـأمة وكمجموعة بشرية متحضرة(14) والخوف الذي تبديه الدول الأوروبية والكيان الصهيوني من المد الأصولي، وتأليبها الأنظمة العربية ضد الأصوليين، بل وتأجيجها نار الفتنة وصب الزيت على النار، كل ذلك يرجع إلى تحسس الدول الاستعمارية وبعض الأنظمة العربية لما يمكن أن تمثله الحركات الأصولية من فضح للواقع الفاسد واستقطاب للقوى الرافضة له. وحيث أن هذا الواقع العربي الإسلامي يخدم المصالح الغربية والكيان الصهيوني، فإن مصلحة الغرب الدفاع عن هذا الواقع بمناوأة الحركات الأصولية بنهج سياسة مدروسة ومحسوبة، أي أنها ليست مناوأة مطلقة لكل الحركات الأصولية، بللمنلا تتماشى سياستها وممارستها مع مصلحة الغرب. ولاشك أيضاً في أن الدين، كعنصر استقطاب وتميز عن الآخر وكقيم أخلاقية وروحية، قد لعب عبر التاريخ دوراً مفصلياً في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها. إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تُحْسِن توظيف الدين في هذا المجال، ولولا وجود مجتمع نشط ومبدع وفاعل، ووجود مثقفين وعلماء ليسوا أدوات في يد السلطة السياسية، أي لولا توافر شروط موضوعية ـ سياسية اقتصادية اجتماعية ـ تهيئ المناخ المناسب للدين ليلعب هذا الدور. فالفرق بين مسيحية أوروبا في عصر الظلمات ومسيحيتها في عصر الأنوار، ليس اكتشاف كتاب مقدس جديد أو نص ديني غاب عن الأولين، وليس في تخلي أوروبا في عصر الأنوار وما بعد عن الكتاب المقدس، ولكن الفرق يكمن في تغيير العقليات، وفي ظهور طبقات ونخبات جديدة، تمردت على احتكار الدين من قبل البعض، وتمردت على تجهيل المجتمع باسم الدين، وأعطت تأويلاً جديداً للدين ودوره في المجتمع. والأمر نفسه بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية. ففي ظل الاسلام ـ قرآن وسنة ـ شيد المسلمون حضارة من أعرق الحضارات، وفي ظل الاسلام نفسه ـ قرآن وسنة ـ وصل العرب والمسلمون إلى الحضيض. فالخلل إذا، ليس في القرآن والسنة، ولكن في البشر المتعاملين معهما. الخلل في نظم وقيادات ومؤسسات ومثقفين، الخلل أن أشخاصا محددين احتكروا (السر الإلهي) ووظفوا الدين ليس في خدمة الرب ولا في خدمة البشرية ولا في خدمة شعوبهم أو غالبيتها، لكن في خدمة مصالح شخصية وفئوية ضيقة.

إذا، في ظل المأزق الذي تمر به الأمة العربية، وفي ظل الهجمة الاستعمارية والصهيونية الشرسة لإفقاد العرب ما تبقى لديهم من منعة وعزة وكرامة، يمكن توظيف الدين ليكون عنصر قوة ومنعة، عنصر توحيد واستنهاض للهمم، ليقوم بما عجزت عن القيام به الأنظمة والأيديولوجيات المنهارة، ولكن ليس من خلال التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات (إحيائية)، بل التعامل معها كحركة مستقبلية، حركة تعانق الحاضر وعينها على المستقبل وليس على الماضي ـ إلا باعتبار الماضي عبراً ودروساً تستلهم ـ وحصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها، على أن تبقى العلاقة بين الإنسان وربه، وعدم قبول تنصيب أي كان نفسه نائباً عن الله في التحريم والتحليل، وفي منح صكوك الغفران أو الوعيد بنار جهنم، وما عدا ذلك من أمور يتم التعامل معها كمؤسسات وأفكار اجتماعية تستمد مصداقيتها وأحقيتها في الإظهار على غيرها، ليس بزعم انتسابها إلى الاسلام، ولكن بقدرتها على إثبات الذات في معركة الحياة وفي مواجهة المؤسسات والفلسفات والأيديولوجيات الأخرى.(15) فمن غير المعقول مواجهة واقع فاسد وحضارة الغرب المادية المتفوقة، بالروحانيات وبالنصوص وبالتاريخ، بل يجب أن نواجهها بواقع قوي متماسك، وإلا كيف يعقل أن ندعي عظمة الاسلام وعظمة حضارة العرب والمسلمين، ونحن ضعفاء متفرقون متخلفون؟ ذلك أن مجرد امتلاكنا القرآن والسنة النبوية وحفظنا إياهما، وامتلاكنا تاريخاً مجيداً مليئاً بالإنجازات الحضارية، لن تغير هذه الأمور في الواقع شيئاً، فليس تردي واقعنا وتخلفنا من (إرادة الله) بشيء، بل هو بإرادة البشر وتقاعسهم، والخروج من هذه الحالة لن يكون بانتظار إرادة الله بأن يقول للشيء (كن فيكون)، بل يكون بإرادة البشر وعملهم. والتغيير الاجتماعي ومسيرة التاريخ هما دائماً يسير حسب إرادة الأقوياء الفاعلين، وكل عظمة الحضارة العربية الإسلامية التليدة الماضية، لا تستطيع اليوم أن تطعم طفلاً جائعاً رغيفاً من الخبز. إن كل أتباع الديانات الأخرى، سماوية أو غير سماوية، والتي قد تكون أقل شأناً من الإسلام، لم ينتظروا إذناً من ربهم أو وحياً منه ليطوروا أوضاعهم ويحسنوا شروط حياتهم، ولم يرجعوا نكسة أصابتهم أو أزمة تعرضوا لها إلى إرادة فوق بشرية، بل بحثوا في الخلل في ذواتهم، ونظمهم وعلاقاتهم، وبالتالي تحركوا بمحض إرادتهم وعن قناعة عقلية، وبدافع المصلحة، محيدين الرب من صراعاتهم وعلاقات بعضهم مع بعض، وانطلقوا وهم مؤمنون بأن عملهم على ما فيه خير الدنيا وتحسين ظروف وشروط حياة الإنسان، هو عمل يرضي الرب لأن الرب لا يرضى لعباده أن يكونوا اتكاليين سلبيين ضعفاء، وهم بذلك لم يتخلوا عن دينهم. فلا المسيحيون تخلوا عن مسيحيتهم، ولا البوذيون كفروا ببوذا، وآلا اليهود تخلوا عن دينهم، فعندما أصبح هؤلاء أقوياء قويت معهم دياناتهم.وعليه، لا يمكن إنكار أن اللجوء إلى الاسلام كخط دفاع يوقف حالة التراجع العربي، وعنصر تعبئة وتحريض، وكتعبير عن رفض الانضواء تحت هيمنة الآخر واستلابه، وكهوية تمايز، يصبح عملاً مشروعاً ومبرراً. إلا أنه حتى يكون له الدور الاجتماعي المتضمن في جوهر الإسلام، باعتباره ثورة ومشروعاً حضارياً، يفترض أن تكون طريقة توظيف الدين في اتجاه التوحيد لا التفرقة، في اتجاه البناء المستقبلي لا النظر إلى الماضي، في اتجاه إظهار عناصر التمايز عن الآخر، لا على أساس النص الديني أو عظمة الماضي، بل تمايز يقوم على الأفضلية والإظهار المبنيان على قدرة الفعل في التعامل مع الحاضر.

إنه لمما يتناقض مع جوهر الإسلام، ومع قدرة الخالق اللا متناهية، أن نحبسه في نصوص بعينها، أو نحوزه ضمن أوضاع وظروف دون غيرها، أو أن يصبح أداة لشخص أو جماعة، لا يكون الرب حاضراً إلا بها ومعها ولا يعرف أسراره إلا هم. وحيث إنه لا يعقل أن يكون الله رب العالمين ضد أن يكون عباده أقوياء ومتحضرين، فإن الرب، رب المسلمين والعالمين لابد أن يكون محبذاً بل وداعياً إلى كل ما من شأنه رفع راية المؤمنين، بل ومحبذاً كسر حاجز الخوف من المحرم المبالغ فيه، وغير المستمد من نصوص واضحة وصريحة في تناول القضايا الدنيوية، حيث أن الخوف من المحرم ـ المتخيل والمصطنع بل والمؤدلج وليس المحرم الديني الصريح النص ـ وإضفاء صفة التقديس على أوضاع وأشخاص باسم الإسلام، شيء يتناقض مع جوهر الإسلام ويسيء له أكثر مما ينفعه: أمر يرهب الناس ويبعدهم عن الإسلام بدلاً من أن يقربهم إليه. مما لا مراء فيه، أنه لا يمكن لأحد الآن أن يدعي أنه يملك الحقيقة الإلهية، أو يزعم أنه موحى له بها، بالتالي فإن أي شخص ـ أو حركة ـ يتحدث عن الإسلام، وباسمه، إنما يتحدث عن تأويل خاص أو وجهة نظر خاصة، فهو غير مفوض له إلهياً، وليس فوق البشر. إن مقياس الحكم على أي تفسير أو ادعاء حول الدين يجد محكه العملي ليس في امتلاكه الحقيقة الإلهية أو الدفاع عنها ـ فهي خارجة عن نطاق البحث لأنه لا يوجد من يجادل فيها ـ ولكن في الواقع الإنساني، في قدرته على توظيف قيم الإسلام ومبادئه الأخلاقية لخدمة الإنسان والاجتماع الإنساني، هذا الأخير، الذي لا يؤسس على المقدس فقط، بل على نظم يضعها البشر ويقيمونها، وتكييفات لأوضاع مستحدثة لا عهد للأقدمين بها. فالإسلام هو سعى متواصل نحو الكمال، وأي شخص ـ أو جماعة ـ يدعي أنه وصل إلى الكمال الإسلامي، وأنه يمثل الحقيقة الإسلامية والنموذج الكامل للإسلام، إنما هو ضد الله بما هو مطلق ولا نهائي وضد الاسلام الذي لكل الأزمنة ولكل البشر.

وفي الختام لا يسعنا إلا القول: إن أكثر الناس حرصاً على الإسلام، هم أكثرهم حرصا على كرامة الإنسان وإنسانيته. فالإسلام ليس مجرد رب يعبد ونصوص تحفظ وتقدس، ولكنه الإنسان أيضاً، الذي وجد الدين من أجله، وقد جاء الاسلام لينقل البشرية من وضع التردي والعبودية إلى الحياة الكريمة. إن أكثر الناس ـ أشخاص أو حركات وأحزاب وأنظمة ـ إسلاماً هم أكثرهم احتراماً للإنسان وتحقيقا لمصالحه وصونا لحريته والتزاماً بالعدالة والحق والإنصاف. ولاشك في أن أنظمة فاسدة ونخبات سياسية مأجورة تستدعي النضال ضدها ومقاومتها بكل السبل المتاحة. ولكن حيث أن هذا الظلم والفساد هو من صنع البشر وبإرادتهم، فإن مقاومته مهمة وطنية ومصلحة للشعب، ولا تحتاج هذه المقاومة إلى إضفاء صبغة دينية عليها لاكتساب المشروعية. فلا يعقل استنكار احتكار الأنظمة للدين وتوظيفها له لخدمة أغراضها، وفي الوقت نفسه تطرح قوى أخرى نفسها ناطقة باسم الدين! فأي نظام وأي حزب أو جماعة تلجأ إلى الدين لاكتساب المشروعية والمصداقية، فإنما تعبر عن اعتراف بالعجز عن اكتساب مشروعية شعبية ومصداقية مستمدة من قدرتها على التعامل مع قضايا المجتمع ومشاكله، مصداقية نابعة من تلمس هموم الناس وإعطاء إجابات وحلول لهذه القضايا والمشاكل، فالمسلمون تواقون بلا شك، إلى اكتساب موقع في الجنة، ولكنهم أيضاً في حاجة إلى حياة كريمة في دنياهم وبحاجة إلى عمل وبيت ومدرسة ومستشفى.(16)

* أستاذ علم السياسة جامعة محمد الخامس ـ الرباط، وجامعة الأزهر ـ غزة

……………………

لمراجع

1- ذلك أن وصول كل التيارات السياسية والفكرية والأنظمة، يسارية أو يمينية، إلى طريق مسدود وإلى حالة التردي العربية الحالية، يحفز العقل على التساؤل عن أسباب الخلل، ولاشك في أن الخلل ليس في الاشتراكية ولا في القومية ولا في الليبرالية ولا في الاسلام، ولكنه في العقليات والأدوات التنفيذية -قادة ونخبات- المتعاملة مع الأيديولوجيات والمذاهب. فلا الاشتراكيون العرب كانوا (اشتراكيون) ولا القوميون كانوا (قوميون) ولا الليبراليون كانوا (ليبراليون) ولا المسلمون كانوا (مسلمون) إنها تلوينات متباينة للعقليات نفسها والسلوك نفسه والقيم نفسها فالبنيان الفكري لا ينفصل عن البنيان الاجتماعي والنفساني والقيمي.

2- لمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع، انظر : برهان غليون، مجتمع النخبة، بيروت، 1986.

3- فبعد أن حلل فوكوياما تطور العلاقات الدولية وآفاق النظام الدولي الجديد، أشار إلى أن الخطر الذي من الممكن أن يهدد حضارة الغرب والهيمنة الأمريكية هو الأصولية الإسلامية. تم سار على المنوال نفسه مفكرون ورجال سياسة غربيون، بحيث لم يعد يخلو لقاء بين مسؤول غربي – خصوصا فرنسي أو أمريكي أو بريطاني- مع مسؤول عربي إلا ويعلن الأول عن وقوف بلاده بجانب الحكومات العربية في مواجهة التطرف الديني (موقف فرنسا وحلف الأطلس عموما مما يحدث في الجزائر مثلا)

4- يوظف البعض مذهب الطاقة الاجتماعي لفينارسكي WINIARSKY، لتفسير الحركات الدينية التي تطفو على السطح بين وقت وآخر حيث ترى هذه النظرية أن “الحركة الفجة للكتل الإنسانية التي تندفع بواسطة دوافع الجنس والجوع عندما تصطدم بحائل من المحيط الطبيعي أو تعيقها بعض الجماعات عن إشباع حاجاتها هذه إشباعا مباشرا، تعمد إلى تحويل طاقة الجوع والجنس إلى صورة أخرى من الطاقة كالصورة الاقتصادية والسياسية والتشريعية والأخلاقية والجمالية والدينية والفكرية، وبهذه الطريقة تتحول الطاقة الحيوية إلى طاقة نفسية واجتماعية”. انظر الكسندر سوركن، المدرستان الاقتصادية والميكانيكية في علم الاجتماع، ترجمة حاتم الكعبي (بيروت :د. ت])، ص : 53.

5- العلمانية هي ترجمة لكلمة Secularism والمشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية Saeculum التي تستعمل بمعنى الزمني أو العالم الزمني تميزا عن العالم الروحي أو الديني.

6- من الكتب الحديثة الصادر في هذا الموضوع كتاب : عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)، ص : 10. حيث يقول في مقدمة كتابه : “وواقع العلمانية ليس بالشأن الناجم عن كون العالم هو العامل المقرر في الحياة فحسب، بل أن العلمانية في الحياة والفكر العربيين موضوع هذا الكتب تشكل سجلا لصعود مفاهيم سياسية وإدارية وعقلية حديثة، وإنسانية، مترافقا مع تهميش المؤسسة الدينية وبضاعتها العقلية التي كانت لها الهيمنة على الحياة الثقافية والتربوية والقانونية على مدى قرون من التاريخ الغربي.

7- في الوقت الذي لم تتورع فيه دول الغرب المسيحي عن استعمال القوة في الصومال باسم الشرعية الدولية، فإنها وقفت موقف المتفرج على عملية قتل الأطفال في فلسطين على يد قوات الاحتلال الصهيوني وعلى عملية الإبادة المنظمة التي يقوم بها الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك وبإشراف دولي. وحتى على مستوى الدلالات الرمزية، لا يثير تعليق المسيحي الصليب على صدره أو رفعه وأبر ازه في راياته، ولا وضع اليهودي غطاء الرأس المميز للديانة اليهودية، أي حساسية، أو اعتراض، ولكن الغرب، ومعه اليهود، يثور ويحتج عندما تلبس فتاة الحجاب، بل وتحرم من حقها في التعلم لهذا السبب، كما حدث في فرنسا.

8- حول علاقة التعليم بالتصور الديني في الوطن العربي، أنظر : ديل ايكلمان” التعليم العالي الجماهيري والتصور الديني في المجتمعات العربية المعاصرة”، ترجمة محمد أعفيف، المستقبل العربي، السنة 16، العدد 170 (نسيان / أبريل 1993)، ص : 58.

9- تصنف الحركات الأصولية باعتبارها حركات إحيائية، هذه الأخيرة تعرفها الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية بأنها تهدف إلى “العودة إلى عهد سابق مجيد واسترجاع عصر ذهبي وإحياء حالة سابقة من الطهر والنقاء والسمو الاجتماعي”.

10- ونشير هنا إلى مثالين فقط، موقف الاسلام من البنوك وشركات التأمين، ما بين محلل ومحرم، والموقف الذي اتخذه رجال الدين في حرب الخليج، حول مدى شرعية استعانة “المسلم” بغير المسلم لقتال “المسلم” حيث أفتى علماء في السعودية ومصر بشرعية الاستعانة بالقوات الأمريكية والأوروبية للقتال ضد العراق، بينما أفتى علماء في العراق والمغرب بعدم شرعية استعانة المسلم بقوات غير مسلمة لقتال العراق!.

11- حيث طلب الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يلقح النخيل، وعندما لم يثمر النخيل جاء قوم للرسول وأعلموه بذلك، فقال لهم : إذا لقحوه فانتم أدرى بشؤون دنياكم.

12- مقابلة مع محمد أركون مجلة الوحدة، باريس، ديسمبر 1984، ص : 13.

13- ومنهم المستشار محمد سعيد العشماوي حيــث يرجع أصل الكلمة إلى الأصوليين Fundamentalists، وهم جماعة وجدت في الولايات المتحدة انسحبت من الحياة المدنية وانعزلت عن الظروف الحضارية لتعيش عيشة المسيحيين الأوائل. أنظر محمد سعيد العشماوي، الاسلام السياسي (البيضاء :[د.ن.]، 1991)، ص : 109.

14- في ظل انسحاب الأيديولوجيات -اشتراكية وقومية- وانسداد آفاق العمل القطري، ومأزق الحركات الوطنية بكل تياراتها، ومع تعزيز الحصار الغربي ضد الأمة العربية وممارسة الغرب كل أنواع الهيمنة، اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية مما يهدد الوجود القومي العربي والهوية القومية العربية بل ويهدد الهوية الوطنية على المستوى القطري لكل بلد، لم تجد الجماهير ملجأ إلا الرجوع إلا التراث، وإلى الدين تحديدا، ليس كتعبير عن حالة تدين، ولكن كتعبير عن حالة رفض للواقع ورفض كل ما هو وافد. فالإسلام على الأقل يحدد للجماهير هوية متمايزة عن الآخر، والماضي يعطيها تعويضا نفسيا، عن رداءة الحاضر.

15- من الاجتهادات الأخيرة في هذا المجال، ما جاء به المفكر المغربي محمد عابد الجابري، حيث دعا إلى نوع من المصالحة أو فك الاشتباك ما بين الاسلام والحضارة المعاصرة، أي بين الماضي الحاضر، وذلك بتحويل العقيدة إلى رأي ومجال يسمح بحق الاختلاف وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة وتحويل القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي. أنظر : محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي 3 (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربة، 1990)، ص : 374.

16- كان من الأخطاء التي ارتكبتها السلطات الجزائرية -وبتحريض خارجي- أنها قطعت الطريق أمام جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائـر للوصول إلى السلطة بعد فوزها بالدورة الأولى من الانتخابات، حيث كان وصول الجبهة الإسلامية إلى السلطة سيؤدي إلى أحد أمرين : إما أن تنجح في إخراج الجزائر من المأزق وتحل مشاكل الشعب الجزائري وهذا ما يتوق إليه الجزائريون، والجبهة الإسلامية في سبيل تحقيق ذلك ستضطر إلى عقلنة سلوكها وسياستها، وإما أن تفشل في حل مشاكل الجزائر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذي سيفقدها مصداقيتها داخليا، وسيضعف من مصداقية وقوة اندفاع الحركة الإسلامية في البلدان العربية الأخرى بعد أن شهدت ما جرى لمثيلتها في الجزائر، وكلا الأمرين ولاشك، افضل من الوضع الحالي التي تشهده الجزائر


المصدر : مجلة رؤية الفلسطينية. العدد 23 ايلول 2003